كلمة وفاء

TT

كلنا نطلب العفو من الخالق البارئ. وحين أطلب العفو أبتهل ان يغفر لي ان كنت قصرت في تربية الدرة التي وهبها لي.. الزهرة الوحيدة التي نبتت في حقلي.

منذ ايام اخبرتني ابنتي ان الكاميرا التي اشترتها فقدت في سيارة تاكسي في نيويورك حيث كانت تؤدي عملا. فوعدتها بشراء اخرى وفي ذهني انها مصورة موهوبة وتستحق الادوات التي تمكنها من توظيف موهبتها.

في قلب الليل مرق في ذهني خاطر قض مضجعي. اتهمت نفسي بإفساد ابنتي وايهامها ان كل خطأ مردود وكل ذنب مغفور وان من حقها الحصول على كل ما تحتاج ما دام قلب الام يحركه حب الولد ذات اليمين وذات الشمال.

في الصباح سألتها: لو لم اشتر كاميرا اخرى ماذا تفعلين؟ فقالت أقتصد من راتبي شهرا بعد شهر حتى يتوفر لدي ثمنها. شعرت ببعض الراحة فقلت لها: حين ينتهي وجودي في حياتك اتمنى ان تكوني دائما مستعدة لتحمل نتائج كل فعل.

خلال اليوم مر في ذاكرتي شريط طويل من الدروس التي تعلمت واختزنت وطبقت وفضل من علموني اياها. أبي وامي وعدد من المعلمين والمعلمات في المدارس والجامعات. مهما كبرنا تسوق الينا الحياة معلما جديدا.

كنت تجاوزت الاربعين حين التقيت بالاستاذة الدكتورة فاطمة موسى. وأعترف انني تضاءلت في لقائي الاول بها. كنت اهابها لأنها استاذة ترأست قسم اللغة الانجليزية في جامعة القاهرة: نجمة في سماء الادب والنقد والترجمة. رائدة نهضة واول معيدة مصرية تعين في قسم اللغة الانجليزية بالجامعة المصرية في اوائل الخمسينيات حين كانت الوظائف حكرا على الانجليز. حصلت على درجة الدكتوراه من الجامعات الانجليزية وهي زوجة وأم. ثم عادت للتدريس حيث تخرج على يديها اكثر من جيل من الدارسين الذين انتشروا في الارض واصبحوا نجوما. تمثلت في مخيلتي مع ابنتها تبذل لها نصيحة أو تعلمها درسا غير مباشر. فقد علمتني أنا اكثر من درس بلا تكلف ولا تطرف.

حين دعوتها إلى طعام حملت الي هدية. لم تأت لي بعلبة من الحلوى بل اهدتني نسخة من محاضرة تعتز بها وكأن الهدية اعتراف بانتمائي الى عالمها. لم يكن حديثها جافا متعاليا بل كانت تنظر الي من وراء نظارة سميكة العدسات فيبرق نور عينيها ويشع دفئا مشوبا بالارتياح. وفي احد الايام قالت انها اعدت لي شيئا. وحين ذهبت للقائها قدمت لي برطمانا من المربى وضحكت قائلة ان محصول الفاكهة كاد يتلف لأن ابنتها مشغولة بعملها واولادها فقررت ان تنوب عنها في صنع المربي. في ذلك اليوم تعلمت شيئا عن تواضع العلماء وان المرأة التي تعد الطعام لا تلغي وجودها كباحثة او كأستاذة.

وتوالت افضالها حين قدمت لها عملا ادبيا بذلت في كتابته جهدا كبيرا وتمنيت ان اعرف رأيها فيه. قرأته ثم اعادته وقالت باقتضاب: الفصل الاخير لا يصلح. ثم زمت شفتيها اعلانا بانتهاء الحديث. وكم بكيت حسرة وخوفا من الفشل. ولكني عدت اليها بالفصل المعدل. قرأته ثم تهللت اساريرها وقالت: هكذا يكون الشغل الجيد. الصحافة تحرمك من الكتابة الادبية. أنت كويسة.

قبل شهر وافاها الاجل. ولكن مثلها لا تنسى. فقد كانت اما ومثلا يحتذى.