لبنان.. وهاجسا الأحجامِ والأبعادِ

TT

أعترف بأنني لست على صلة بأي جهة استخباراتية، وعليه قد لا تكون لتحليلي قيمة تذكر إزاء ما يمكن أن تحمله هذه الساعات أو الأيام القليلة الحاسمة سواء على صعيد الوضع اللبناني، أو ما يطبخ للمنطقة فوق مأدبة مؤتمر أنابوليس العامرة.

كلامٌ من هذا القبيل قد يخفف عند القارئ من «الإثارة» التي تخلقها التكهنات والادعاءات الكاذبة بالعلم ببواطن الأمور ومواطن الأسرار، ولكن هذه هي الحقيقة..

خلال الأيام العشرة الفائتة كانت هناك عدة محطات مهمة جديرة بالقراءة بالنسبة للاستحقاق الرئاسي اللبناني، الذي يبدو لي أنه بطريقة أو بأخرى سيكون جزءاً من الخلفية الإقليمية لمؤتمر أنابوليس، لعل أهمها وأخطرها الخطاب الهجومي الصريح للسيد حسن نصر الله يوم 11 من الشهر الجاري، ووضع البطريرك الماروني نصر الله صفير قائمة أسماء المرشحين لرئاسة الجمهورية، والموقف الإعلامي السوري الرسمي ضد الوساطة الفرنسية في موضوع انتخابات الرئاسة اللبنانية.

مؤتمر أنابوليس سيتمحور، كما هو معلن، على تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وبالذات في شقه الفلسطيني الإسرائيلي. بيد أن أبعاده ستشمل، حتماً، كما شملت على امتداد السنوات الستين الأخيرة، كل منطقة الشرق الأوسط. وفي اعتقادي، أن جميع اللبنانيين يقرّون بالترابط الوثيق بين الصراع العربي الإسرائيلي و«الأزمة الوجودية» الطاحنة التي يعيشونها منذ بضع سنوات، استمراراً لإرث الحرب الأهلية المقيتة، لكن الخلاف الأساسي في ما بينهم هو على ضبط مستوى علاقتهم بهذا الصراع.

فلجملة أسباب، منها الطائفي، والآيديولوجي، والمصلحي (العشائري أو الفردي)، والكيدي، و«الاستزلامي» القائم على التبعية العميلة، يختلف اللبنانيون على درجة مساهمتهم في هذا الصراع، مع أنهم قدّموا، في مطلق الأحوال، حتى الآن أكثر مما قدّمه معظم إخوانهم.

فريق منهم ما زال عن اقتناع ـ على الأرجح ـ يؤمن بضرورة مواصلة «المقاومة» في معركة وجود مصيرية كونية ضد قوة معادية غاشمة دأبها التآمر على المنطقة وأهلها. وهذا الفريق يمثله «حزب الله» الذي يشحن بموقفه «الجهادي» الدائم هذا أفئدة جمهوره من صغار السن سواء عبر خطب قادته أو برامجه التلفزيونية التعبوية والتحريضية التي ما عادت تكتفي بالعدو، بل غدت تحضّ على هدر دم كل من تصفهم بعملائه وأتباعه داخل الوطن.

ثم هناك فريق ثانٍ ارتبط منذ حين بقوى إقليمية تدرك ربما حقيقة حجمها مقابل أحجام خصومها الأقوى منها، لكنها مع ذلك توسّلت وما فتئت تتوسل سياسة الابتزاز المدروس بغية تقاضي أعلى ثمن ممكن في أي صفقة تسوية... ولو على حساب أرزاق إخوانها ومصالحهم. واليوم يواصل هذا الفريق (اللبناني) تأييد سياسات هذه القوى، ويبارك مناوراتها في الساحتين الفلسطينية واللبنانية، تحديداً، عبر الكلام المبطن والوعود الفارغة أمام الجحافل الآتية والمغادرة من الموفدين الدوليين.

ثم، هناك فريق ثالث كان أصلاً ضد الانخراط في «المشروع العربي» و«الرؤية العربية»، وهو اليوم يحاول أن يبرهن لخصومه أن رهانه كان صائباً منذ البداية، وأن فكرة الانكفاء بل والانعزال المدعّمة بـ«ثقافة» بديلة لا تخلو من الأسطورية الجميلة... كانت لتجنب لبنان وأهله الكثير من الويلات التي حلت به وبهم.

وأخيراً هناك فريق رابع يضم قوى حيّة وواعية تنظر إلى ما حولها فيفزعها ما تشاهده. وهي تفهم أنه لا بد أن يكون ثمة خيار أكثر تعقلاً وحكمة من المشاريع الانتحارية المفضية إلى الهاوية، وأكثر أخلاقية من التلاعب الانتهازي المكشوف بالمبادئ والمصير، وأكثر انفتاحاً في مسألتي الهوية والانتماء وأقل استكانة لذهنيتين أميركية ودولية ما زالتا متواطئتين أو عاجزتين إزاء «ثقافة» (؟) سياسية إسرائيلية مريضة... تزداد ابتعاداً يوماً بعد يوم عن التفكير العملي السليم الذي عادة ما تفرزه آليات الديمقراطية في مجتمعات تقوم على محاسبة أصحاب القرار.

بالمناسبة، في إسرائيل، واضحٌ اليوم أن آليات الديمقراطية ـ ولو في طابعها الحصري المنحرف ـ التي أسسها المستوطنون الأوائل باتت تعاني من تشويه متزايد بفعل «العسكرة»، وتكاثر نسبة المواطنين الجدد الآتين من دول تقاليدها الديمقراطية محدودة، والهلع الأقلياتي المعهود في أي شعب يعيش هاجسا ديموغرافيا أزليا. ولذا، ما عاد هناك غير لجان التحقيق الخاصة مؤهلة لمحاسبة الحاكمين في غياب الوعي الحزبي المطلبي الحقيقي.

البعد الديمغرافي، إذاً، له دور في تغيّر وجه إسرائيل.

البعد ذاته له دور أيضاً في التغيّر الذي عاشه وسيعيشه لبنان، والذي عاشه وسيعيشه أشقاؤه العرب في المستقبل. وهنا، يصبح من الخطورة بمكان أن يُطلق كلام استفزازي عديم المسؤولية عن «حجم» هذه الطائفة أو تلك، ولا سيما في وقت اختصرت الهواجس المتبادلة الطوائف اللبنانية بزعاماتها، فصار حجم «الطائفة» هو «حجم» زعامتها الأقوى. وهنا بالذات ارتكب «حزب الله» خطأ ما كان مضطراً إلى ارتكابه، بدخوله أزقة فرز الطوائف ورسم أحجامها ومحاولته تطويقها... وإذا ما استعصى عليه ذلك... فتفجيرها من الداخل.

أيضاً، يصبح خطيراً جداً كلام البعض عن أن حقوق المسيحيين لا تستعاد إلا بتسليم رئاسة الدولة لأقوى زعمائهم، طالما أن الشيعة والسنة يتمثلون في هرم السلطة بأقوى قياداتهم. فالواقع أن هذا الوصف غير دقيق، لأن رئيس مجلس النواب (الشيعي) رئيس لمجلس مقسوم مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، ورئيس الحكومة رئيس لحكومة أيضاً تضم عدداً متساوياً من الوزراء المسيحيين والمسلمين، بينما رئيس الجمهورية رئيس فرد لا يقاسمه سلطته أي مجلس أو هيئة، ولا يرسم حدود نفوذه غير الدستور.

حمى الله لبنان، وسهل مهمة أخياره، وأنقذه من عبث العابثين وجهالة الجاهلين.