مؤتمر (الالتفاف على مبادرة السلام العربية).. لإجهاضها!!

TT

(السلام)!!.. ما أجمل هذه الكلمة وما أشرفها وأحلاها: في الفم والضمير.. وما أقربها الى الله القدوس السلام ـ تقدست أسماؤه ـ.. وما أجداها وأمتعها وأروحها: في واقع الناس فرادى وجماعات.. ولذا نحن دعاة سلام، لأننا نحب السلام، ونفرح به.. ونؤمن بأنه الأصل الأصيل في العلاقة بين الناس.. وبهذه المحبة الغامرة للسلام، والحرص الشديد عليه، نرفض المتاجرة الحرام به، والمزايدة المنافقة عليه، والمغامرة بحاضره والمقامرة بمستقبله، كما نرفض خطط اغتياله التي تُحبك ـ باسمه ـ من اجل قتله ودفنه!!.. وبقدر إيمان المرء بقيمة الشيء، تكون غيرته عليه، ودفاعه عنه. لقد دعت إدارة الرئيس جورج بوش الابن إلى لقاء في انابولس، سمي بأسماء كثيرة منها (مؤتمر السلام) مثلا.. وهذا من (الأسماء الأضداد) في عصرنا وعالمنا هذا.. فقد رفع شعار الديمقراطية وفي ظله تفرض دكتاتورية عالمية هي دكتاتورية المحافظين الجدد.. ورفع شعار حقوق الإنسان وفي ظله سُنت قوانين كبت الحريات والتجسس على الخصوصيات، كما مورس تعذيب الإنسان على نطاق واسع.. ورفع شعار مكافحة الإرهاب فإذا هو شعار يستغل لأغراض أخرى، وإذا هو شعار: توسع في ظله نطاق العنف، واشتد بأسه وجنونه.. وفي سياق هذه الأضداد، ينبغي أن يفهم (مؤتمر الوهم والخداع) في أنابولس، فهو مؤتمر يجب أن يسمى (مؤتمر الالتفاف على مبادرة السلام العربية بهدف إجهاضها).. ومن الغريب العجيب المريب: أن عربا من العرب لا يزالون يخادعون أنفسهم، على الرغم من أن الداعين إلى المؤتمر (بقايا المحافظين الجدد في واشنطن) وان المستفيدين منه (غلاة الصهاينة) قد أكدوا في غير مرة، وغير تصريح على أن هذا المؤتمر لن يخرج بنتائج تذكر، وأنه على المتعلقين به: أن يخفضوا سقف توقعاتهم إلى أدنى حد!!.. ولندع تلك التصريحات القديمة نسبياً، ولنكثف الضوء على أحدثها وأقربها للوعي. فقد قال مارتن انديك في الأسبوع الماضي ـ وهو يهودي قيادي ـ: «إنها لمأساة ان يتذكر جورج بوش أزمة الشرق الأوسط في نهاية ولايته».. ومن مضامين هذا الكلام: أن سلام الشرق الأوسط كان غائبا عن ذهن بوش وذاكرته خلال سنوات سبع، وأن من لم يكن جادا في السلام وقادرا عليه في ذروة أدائه وصلاحياته وقوته: لن يكون جادا في ذلك، ولا قادرا عليه في شهور ذبوله وأفوله.. وقال شمعون بيريز ـ رئيس الدولة العبرية ـ في الأسبوع الماضي أيضاً: «إن اتفاق سلام في الشرق الأوسط أمر مستبعد في نهاية ولاية الرئيس الأمريكي بوش».. قال ذلك ـ بالتحديد ـ بين يدي ما سمي مؤتمر السلام في انابولس (توقع تقرير الأمن الوطني الإسرائيلي أول أمس: فشل المؤتمر بسبب يتعلق بعجز الطرف الفلسطيني)!.. وللتوقيت مدلوله ـ ها هنا ـ فبيريز يخاطب ـ بهذا الكلام ـ: أطرافا معينة: الطرف الأول هو شعبه الذي يحرص على أن يطلعه على الحقائق والوقائع ومنها: ألا يتوقع الإسرائيليون اتفاق سلام في هذا المؤتمر.. والطرف الثاني هو: الإدارة الأمريكية، فقد وجه لها رسالة واضحة وهي: إننا نحن الإسرائيليين المعنيون باتفاقات السلام.. وقراءتنا للأحوال والمسرح والوقائع تقول: انه لا يمكن التوصل الى اتفاق سلام في هذه الظروف، وعليكم الالتزام بفهمنا وتقديرنا وخيارنا. ان السلام الحقيقي يقوم على (الحقائق)، لا على (الأوهام).. ومن الحقائق المرة التي تتوجب رؤيتها والتعامل معها.

1 ـ ان الفلسطينيين، ومعهم عرب من العرب، لا يزالون يسرفون في تقديم التنازلات حتى خلت أيديهم من الأوراق المهمة تقريبا، وحتى استغل الصهيونيون تلك التنازلات في طلب المزيد من التنازلات!!.. ولمن (يحب) القراءة من السياسيين العرب والفلسطينيين، أو لمن (يضطر) منهم ان يقرأ: نسوق هذا الكلام (القنبلة) الذي فجره شمعون بيريز ـ بصراحة تامة ـ في كتابه (الشرق الأوسط الجديد). فقد قال: «وفي اوسلو توصلت إسرائيل الى أكثر من مجرد كلمات. فقد حصلنا على تنازلات أمنية، وعلى قضية بقاء القدس خارج اتفاقية الحكم الذاتي: الابقاء على المستوطنات حيث هي. وقبل موعد الاحتفال في حديقة البيت الأبيض بقليل: ظهر احمد الطيبي مستشار عرفات في غرفتي في الفندق ليبلغني انه ما لم يتم تعديل بعض الجمل الواردة في الإعلان، فان عرفات سيكون على متن الطائرة التالية المغادرة للشرق الأوسط. وعندما اظهرنا لرسول عرفات موقفا أكثر تصلبا تراجع عرفات، وانتهت الأزمة!!.. لقد ذاق الإسرائيليون (طعم التنازلات الضخمة) فاستعذبوها، وتلمظوا على المزيد منها.. وقد كان.. فهم رفضوا ـ عمليا ـ الدخول في مفاوضات القضايا النهائية، بناء على اعتقاد عندهم أنهم إذا (طولوا بالهم) فسيقدم الفلسطينيون ـ ومعهم عرب ـ مزيدا من التنازلات.. والمشكلة الكبرى هنا هي: ان التنازلات المتهافتة لم تحل الإشكال، بل زادت الأزمة تعقيدا، وزادت القضية ضياعا.. ولذا كانت (الصلابة السياسية) في المفاوضات ونيل الحقوق، لا تقل جدوى ولا حسما عن (الشجاعة العسكرية) في ردع العدوان وتحقيق الانتصار.

2 ـ من الحقائق الساخرة التي ينبغي رؤيتها بوضوح والتعامل معها بعقلانية وواقعية وبعد نظر: ان الإسرائيليين لا يريدون (سلاما حقيقيا) ـ لهم ولغيرهم في المنطقة ـ قد يكون وراء (عدم إرادتهم) هذه: مخاوف وأوهام سيكلوجية وتاريخية الخ.. بيد أن المؤكد: أن فقدان إرادة السلام موجود.

ما الدليل؟

الأدلة كثيرة جدا.

من أبرز هذه الأدلة: رفض إسرائيل لـ (مبادرة السلام العربية)، أو تلكؤها الغبي أو اللئيم في التعامل معها بمصداقية وجدية. فلو كانت إسرائيل جادة في السلام مع العرب، لما ترددت ـ قط ـ في الاستجابة لهذه المبادرة وتطبيقها.. لماذا؟.. لأن هذه المبادرة حققت لإسرائيل ما لم تحلم به، بمعنى حققت لها ضمان بقائها وأمنها واستقرارها.. ولو لم يكن في هذه المبادرة إلا:

أ ـ (التعهد بالتطبيع العربي الشامل معها).

ب ـ مقابل (الانسحاب من الأرض العربية التي احتلتها عام 1967). لو لم يكن في المبادرة إلا هذان البندان لكانا كافيين في إقناع إسرائيل بالاستجابة المسؤولة لمبادرة السلام العربية. وبما انها لم تستجب، فهذا برهان نظري وعملي حاسم على عدم جديتها في السلام.. وفي ضوء هذا يتعين فهم حراكها تجاه مؤتمر انابولس بأنه (التفاف خبيث على مبادرة السلام العربية بهدف إجهاضها) وتفريغها من مضمونها الرئيس: أي ان تحصل على (التطبيع العربي معها) من دون ان توفّي بما عليها من التزامات وهو: الانسحاب من الأرض العربية التي سيطرت عليها ـ بالقوة ـ عام 1967، وهو انسحاب ألزمتها به قرارات دولية ملزمة «!!!» منها ـ مثلا: القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن قبل أربعين عاما بالضبط أي في 22 نوفمبر 1967. إن العرب بموافقتهم على مبادرة السلام العربية وتبنيها كانوا (مرنين) إلى أقصى حدود المرونة، بل يمكن القول إنهم تحاملوا على أنفسهم وتجرعوا السم وابتلعوا الأمواس. فإذا طالب أحدٌ: العرب بمزيد من التنازلات فإنما يطالبهم بالدّون الذي لا يقبله بشر سوي: في السياسة والعقل والأخلاق ومعنى الحياة والوجود.. وحتى لو وجد في العرب من يفعل ذلك، فإن غلاة الصهاينة لن يكتفوا بذلك، بل سيتخذون ذلك دليلا على أن العرب: ليسوا ناسا!، بل هم جنس (أحط) من الناس، بدليل انهم قبلوا ما لا يقبله أحد من الناس!. قلنا: إن البراهين تكاثرت على أن الإسرائيليين غير راغبين في السلام، ولا جادين في تحقيقه.. يُضم الى ذلك: عامل زمني سياسي وهو: وجود المحافظين الجدد في البيت الأبيض.. ففي تقدير غلاة الصهيونية: انهم لن يظفروا بوضع أو نفوذ مثل الذي هم فيه الآن في واشنطن.. هذا الوضع النادر أو السوق عالية الربح الصهيوني يريدون استثماره وفق معدلات من السرعة تتحقق به أهدافهم العظمى تحت شعار (لنحقق أخطر أهدافنا قبل الانتخابات الرئاسية وقبل رحيل جماعتنا الموثوقين المطيعين عن البيت الأبيض).. وهذا ما يفسر ـ بعمق ـ ظاهرتين صهيونيتين مركبتين: ظاهرة إجهاض كل مبادرة لسلام حقيقي منصف.. وظاهرة سرعتهم الفائقة في دفن القضية الفلسطينية ونعيها.. نعم.. هم يمارسون ذلك بلسان حال يقول (اركض يا كوهين قبل فوات الأوان).

ومما لا ريب فيه أنهم سيستغلون مؤتمر انابولس لتحقيق أهدافهم الظالمة، بل الغبية.. وفي شبه يأس منهم نترك غلاتهم: ابتغاء مخاطبة عقلائهم وعقلاء الناس من كل جنس فنقول: إن هذا المؤتمر يمكن أن يكون (هزيمة سياسية وتاريخية لقوى الاعتدال).. كيف؟.. إن شعوب المنطقة ممتلئة ريبة في السلوك الأمريكي، وفي السلوك الإسرائيلي. وفي السلوك المداهن لهذين السلوكين، وهي ريبة لا تزال تختمر وتتحول الى ما يشبه التذمر الشامل. من هنا، فإن أي انحياز جديد لباطل إسرائيل، وأي هضم جديد للحقوق الفلسطينية والعربية: سيرفعان ـ بيقين ـ معدلات السخط والتذمر في المنطقة، وهي معدلات ستكون مناخا واسعا للتطرف من كل نوع.. واتساع نطاق التطرف: يُترجم بأنه هزيمة لقوى الاعتدال.. والترجمة صحيحة 100%.

وكلمة أخيرة لحكام عقلاء: اشربوا كأس الأنانية الوطنية الى آخرها، وقولوا: لا.. لا.. لا مليون.. لا، لهذه المحرقة السياسية المجنونة، فلا الإدارة الأمريكية، ولا إسرائيل تستحقان أن تشوه سمعة حاكم وطني من أجلهما.

ان كثيرا من المحافظين الجدد أنفسهم: نجوا بجلدهم من محرقة تلويث السمعة فاستقالوا: حفاظا على ما بقي من سمعتهم.

كونوا مثلهم ـ على الأقل ـ.