المغشوش يكسب!

TT

فقط في العالم العربي توجد حالة الصحافي المقاطع. أي أن يرفض الصحافي الذهاب إلى مكان المعلومات ومصدرها لأسباب سياسية خالصة. إذا كان الصحافي لا يأتي بالمعلومة من مصدرها، فما هي وظيفته إذن؟ فقط يقرأ عن الحدث ويعيد صياغته في جريدته ويدَّعي أن الخبر خبره؟ سبب هذا الحديث هو الحملة الشعواء التي قامت بها بعض الصحف والصحافيين ضد مكرم محمد أحمد، المرشح لمنصب نقيب الصحافيين في مصر، لأنه ذهب في يوم ما مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات في رحلته التاريخية إلى القدس. الغريب في الأمر أن يصدر هذا الموقف عن صحافيين، فواجب الصحافي في عرف العالم كله أن يتبع الخبر والحدث أينما كان، وأظن أن أيَّ صحافي تتاحُ له فرصة الذهاب في رحلة مهمة كرحلة السادات الشهيرة التي غيرت الكثير في تاريخ المنطقة، وتتاح له بذلك فرصة الكتابة عنها، ويرفض الحضور بدعوى مقاطعة إسرائيل، فهو ليس صحافيا بأي معنى على الإطلاق.

لن أدخل هنا في انعكاس ما جلبته زيارة السادات للقدس إلى مصر من ربح أو خسارة كي لا ينزعج (خاطر المناضلين). ولنفترض مع (المناضلين) بأن السادات قد ارتكب خيانة كبرى في ذهابه إلى القدس، أفلا تكون إذن الشهادة على الخيانة والكتابة عنها من موقع الحدث هما من صميم العمل الصحافي؟ أم أن الصحافة لا تكتب إلا عن الوطنيين الخلص فقط؟ هذا المنطق غريب جدا عما تعرفه صحافة العالم بأسره. فليس المطلوب من الصحافي أن يسوق نفسه للقارئ كسياسي، ويمتنع عن تتبع حدث ما لأنه لا يتوافق مع رؤيته الآيديولوجية؟ الصحافي يفترض أنه ناقل نشيط للخبر بحياد وموضوعية، أي أن قراءه ائتمنوه على نقل الوقائع بأمانة، فليست لدى كل قارئ القدرة على الذهاب إلى مكان الخبر للإتيان به، لذا يستأمن الصحافي على القيام بهذه المهمة.

كيف وصل بالصحافة الحال أن توبخ وتعاقب من ذهب لكي يأتي بالخبر حسب أصول المهنة، وتبجل من استعلوا على الصحافة والبحث عن المعلومة لمواقف مقاطعة؟ كيف انقلبت المعايير إلى هذا الحد؟ وهل انقلاب المعايير هذا حادث في الصحافة فقط أم في مناح أخرى من الحياة المصرية؟

هناك شيء ما لا أستطيع تحديد كل ملامحه يشير إلى أن مصر بالتحديد، وبعض الجيوب في العالم العربي، تفضل المغشوش المغلف بأوهام كاذبة على الحقيقة. ولكن الحيرة في أن المغشوش المعروض بذكاء يحتاج إلى شركات علاقات عامة ناجحة، وهذه غير موجودة في بلداننا. فكيف يسود المغشوش عندنا إذن؟ لا أملك إجابة واضحة عن هذا السؤال، ولكن عندما ناقشت أحد الأصدقاء حول هذه النقطة، قال لي «متتعبش نفسك، حتى المغشوش عندنا معمول بطريقة بلدي، الغش عندنا ليس بالغش الجيد أيضا». واسترسل صديقي: «الغش عندنا بالدراع أيضا، أي أن أقول لك إنني سأغشك بحيلة بلدي، وأعرف أن الحيلة ربما لن تنطلي عليك، لكن إن قلت بم. أنا لدي عصابة حتهزأك وتزفك وتطلعك خاين وابن ستين.. إيه رأيك»؟

لا شك أن جزءاً كبيراً من المشكلة هو نتيجة غياب المعايير المهنية في كثير من مناحي الحياة عندنا، ومنها الصحافة. فيبدو أن مدارس الصحافة الحديثة وجامعاتها فشلت حتى الآن في ترسيخ معايير أصول المهنة وأخلاقياتها، أو أن كليات الإعلام درَّست طلابها هذه المبادئ، وهم الذين فشلوا في تطبيقها على أرض الواقع. أو ربما كان سوق الإعلام معدا بطريقة عشوائية تلفظ المعايير المهنية مما يدفع الصحافي المحترف إلى التخلي عن اللعب القانوني ويلعب بـ«الدراع»، ليصبح كل مقال وتقرير حسب قواعد اللعبة «فاول»، إن لم يكن ضربة جزاء.

كتب الدكتور عبد المنعم سعيد في مقال له في جريدة «الأهرام» الأسبوع الفائت عن ظاهرة «البلطجة» الصحافية. عندما استضاف التلفزيون المصري مطرباً مصرياً غنى في حفل على أرض مصر، وكان السفير الإسرائيلي من بين الحاضرين.

هل يستطيع المطرب أن يحدد مَنْ هم الحاضرون؟ هذا هو السؤال. والدكتور سعيد غالبا ما يحرج الذهنية المصرية بأسئلة تبدو بسيطة لكنها نافذة. ترى ما الهدف من إثارة مثل هذه القضايا، هل هي لجلد فنانٍ على الملأ حتى لا يجرؤ آخرون على الغناء قبل فرز الجمهور للتأكد من خلو المكان من (الأعداء) و(العملاء) و(الأعداء والعملاء المحتملين)؟ هل هذا هو نوع من أنواع الترهيب والإرهاب الفكري؟ هذا السلوك هو أوضح علامات المجتمع المتخلف، وإن بدأ سوس كهذا في النخر في جسد مجتمع، فالإنذارات بلا شك خطيرة.

لا يختلف اثنان على أن مصر هي الدولة التي تحدد الكثير من اتجاهات الرياح الثقافية والصحافية في المنطقة. لذا يكون لزاما على القائمين على الثقافة في مصر أن يسألوا أنفسهم عن أسباب التدهور الحادث في كل المهن وعن الجذور الثقافية للعشوائية في العمل والفكر.

المشكلة ليست مصرية. زرت الكويت ليومين وشاهدت تلك الثورة في الصحافة، ولا أعني بالثورة تغييرا جذريا وإنما تغير في عدد الصحف، اذ بلغ عدد الصحف الجديدة حوالي عشر. كل هذا في مجتمع صغير من حيث عدد القراء. فلا يمكن لعاقل أن يتصور أن الكويت تستوعب خمس عشرة جريدة يومية. من أين يأتي الكويتيون بالصحافيين في بلد صغير. حكى لي رئيس تحرير واحدة من تلك الصحف الجديدة عن حالة صحافي استقدمه من مصر، ولم يبق للصحافي في الكويت أكثر من ثلاثة أيام بعدها كتب موضوعا مطولا ينصح فيه الحكومة الكويتية بكيفية تعاملها مع البرلمان. كيف لصحافي أن يتجرأ للكتابة عن برلمان بلد لا يعرفه أو تطأه قدمه لأول مرة ولثلاثة أيام؟ ولما قال له رئيس التحرير ان هذه الكتابة لا تصلح، كتب «قصيدة مديح في واحدة من المؤسسات الكويتية» على حد قول رئيس التحرير. ظن صاحبنا أن الموضوع الأول رُفِضَ لأن الصحافي انتقد شيئا ما في الكويت ولكي يرضى صاحب العمل تحول من النقد الى المديح. رئيس التحرير كان ضد عدم المهنية وليس ضد المديح أو النقد، ولكن التربية الصحافية السائدة لا تعرف إلا المواقف والآراء. وهذه هي مأساة الصحافة عندنا. ليس كل رؤساء التحرير كهذا الرجل، هو شذوذ عن السائد.

ان الكويت بها عدد قليل من الصحافيين لا يكفي صحفها القديمة، دعك من عشر صحف جديدة، تجد أن الصحافيَّ يكتب لخمس جرائد في وقت واحد، وكله مأخوذ من الوكالات بتصرف بسيط، فتبدو الصحف كلها وكأنها صحيفة واحدة. ترى لماذا هذا البذخ والإسراف؟ هل من الضروري أن يكون شعار الكويت «صحيفة لكل مواطن»؟

تشابهت علينا الصحف، وتشابه علينا الصحافيون، وتدهورت المهنة لغياب المعايير الجادة، وفي ظل غياب المعايير، «المغشوش يكسب».