سامحك الله يا فخامة الرئيس!

TT

في مثل هذه اللحظات الحرجة في تاريخ لبنان، وما أكثرها في عمر هذا الكيان الصغير، يصعب القطع بالمستقبل لكن من السهل ـ وأيضاً من الواجب ـ مراجعة الحقبة التي انتهت مع انتهاء رئاسة الرئيس العماد إميل لحود.

لدى استرجاع شريط الذكريات أستبعد أن يكون أي عهد رئاسي في لبنان قد استُقبل بالتفاؤل الذي استُقبل به عهد إميل لحود. فالرجل ابن أسرة سياسية كريمة، ووالده شخصية وطنية مرموقة، والمدرستان العسكرية والسياسية اللتان تخرج فيهما تشكلان امتداداً لإرث الرئيس الوطني فؤاد شهاب، الذي قاد عملية إعادة بناء لبنان وقيادته على درب المؤسساتية والاعتدال السياسي والتوازنين اللبناني ـ العروبي والإسلامي ـ المسيحي بعيداً عن أتون الأحلاف الإقليمية والدولية.

لكنه سها عن بال المتفائلين ثلاثة عناصر مهمّة كان يمكن أن تطبع رئاسة لحود وسياساته، هي:

ـ ان لبنان كان يعيش في ظل نفوذ سوري هائل يتمتع بمباركة أميركية بعد موقف دمشق الداعم لواشنطن من حرب تحرير الكويت.

ـ وجود النزعة العسكرية ـ الأمنية عند أي رئيس ذي خلفية عسكرية، وهذه النزعة صارت «مقتلا» حتى للتجربة الشهابية برغم كل فضائلها وفوائدها للبلاد.

ـ هاجس كل رئيس مسيحي ماروني أن يتقاعد بطلاً في الضمير المسيحي، وفي حالة إميل لحود فإنه اعتبر من حقه العمل بشتى الوسائل على نسف كل ما حمله «اتفاق الطائف» من تغييرات دستورية قلّصت صلاحيات رئيس الجمهورية لمصلحة مجلس الوزراء.

كذلك، تأثرت هذه العناصر الثلاثة بواقعين لهما امتدادات طائفية داخلية وخارجية معقدة.

الواقع الأول يتجسّد في النفور المسيحي التلقائي ـ أو قل السليقي ـ من كل سياسي مسيحي على علاقة تحالف أو تبعية مع دمشق... ولقد استمر هذا الوضع حتى اليوم. فبالرغم من الإشارات الودية المتعددة التي يطلقها النائب ميشال عون في كل مناسبة باتجاه دمشق، فإن «شارعه» السياسي الطائفي فكرياً وقلبياً ضد دمشق وضد «حزب الله»، لكنه يشعر أن الفرصة الوحيدة لوصول «الزعيم المنقذ» إلى الرئاسة لن تأتي إلا عبر هاتين البوابتين.

والواقع الثاني أن التغيّر الذي أخذ يحصل تدريجياً في القيادة السورية، مع بدء تحضير الدكتور بشار الأسد لخلافة والده (قبل وفاة الرئيس حافظ الأسد)، رفع أسهم لحود ومعه جيل من ساسة «الصف الثاني» اللبنانيين على حساب أسهم حلفاء «الصف الأول» مثل رفيق الحريري ونبيه بري ووليد جنبلاط. ولم يطل الوقت حتى تجلّت العلاقة الجديدة بابتعاد (أو إبعاد) الحريري عن الحكم لمدة سنتين (1998 ـ 2000)، وتعزيز تركيبة السلطة الأمنية في لبنان، وتبلور علاقة «تحالف تكتيكي» خطير بين الرئيس الماروني الطامح لاستعادة امتيازات المسيحيين الرئاسية... وبين «المقاومة» الشيعية حصراً. وهنا أخذت ترتسم معالم مشروع استقطابي طائفي اتخذ شكلاً أكثر تقدّماً في ما بعد مع «ورقة التفاهم» بين «حزب الله» وميشال عون.. الذي صار فجأة من المرشحين المفضلين عند الرئيس لحود (وعند دمشق) لخلافته.

خلال السنوات الماضية، اعتمد مقياس نجاح مغامرة إميل لحود أو فشلها، بلا شك، على مدى قدرته على إقناع قطاع واسع من المسيحيين بأن مهادنته دمشق ورفعه شعارات دعم «حزب الله» وتبنيّه «مقاومته» ستصبّ في النهاية لمصلحة استعادة «حقوق المسيحيين التي سلبها» إياهم «اتفاق الطائف» وعرّابوه وأعطوها للحريري والسنّة... بعضلات دمشق وسلاح «الحزب».

وحقاً، احتفظ الرئيس السابق بثقة مجموعة من الساسة والإعلاميين ورجال الدين المسيحيين المعروفين بقلة محبتهم المزمنة للعروبة والمقاومة.. غدوا كلهم من «حوارييه» وأصدقائه ومستشاريه المقربين، وتحوّلوا بقدرة قادر إلى داعمين لـ«المقاومة» ومدافعين عن «العلاقات الأخوية» مع دمشق، مع أن موقف البطريركية المارونية المنتقد لممارسات دمشق كان واضحاً تماماً في «بيان المطارنة» الشهير عام 2000.

في المقابل، كانت العلاقة السورية ـ الإيرانية تتطوّر بشكل غير مسبوق على أنقاض علاقات دمشق المتوازنة التقليدية مع محور «الاعتدال العربي» الذي بدا لبعض الوقت أن دمشق صارت جزءاً منه بعد تحرير الكويت. وانعكس هذا التطور في النمو النوعي لـ«حزب الله»، سياسياً وقتالياً ولوجستياً، في الساحة اللبنانية. ومما لا شك فيه أن الوضع الحالي للحزب ومواقفه نتاجٌ للعلاقة السورية ـ الإيرانية الخاصة جداً.

بالأمس، غادر إميل لحود قصر الرئاسة تاركاً لبنان في حالة انقسام سياسي وطائفي حاد.. هي ثمرة رهانه ـ حتى آخر لحظة ـ على استغلال التناقضات الطائفية المحلية والنفوذ الإقليمي. وفي اعتقادي أن التاريخ سيسجل له أنه زجّ المسيحيين اللبنانيين في معركة ليست معركتهم.. وسط أجواء مشحونة أصلاً في العالم الإسلامي نتيجة تداعيات «الحرب الأميركية على الإرهاب».. من تنامي الحركات والجماعات الأصولية، من الملف النووي الإيراني، مرورا بمواصلة إسرائيل سياسة الهروب إلى الأمام.

وسيكون الجانب الأخطر لحالة الانقسام الراهنة ألا يتنبه المسيحيون إلى مضمون هذه الحقيقة المرة، وأن يسمحوا لعسكري متقاعد آخر اسمه ميشال عون بمواصلة تنفيذ ما باشره لحود ورعاه على امتداد تسع سنوات، أو رفع مستوى المجازفة إلى حد يدمِّر معه أي فرص باقية لاستمرار الوجود المسيحي في لبنان.

إن مجرد التفكير في طروحات عون والتمعن في مواقفه ومراجعتها ماضياً وحاضراً يكفيان لإدراك حجم الخطر المحدق بلبنان... إذا ضعفت الإرادات وغابت الحكمة واعتمد مجدداً الخيار الرئاسي الخاطئ.