أنابوليس «والناس اللي بتخر»!

TT

أنا مقتنع اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بأن الناس عندنا «بتخر»، أي أن الفرد منا يقرأ اتفاقا أو بيانا أو حتى كتابا، وعندما تسأله عن معنى ما قرأ، يقول لك «مش فاكر». كما الصفيحة أو الجردل أو الوعاء الذي به ثقب، تملأه بالماء وما هي إلا دقائق حتى تراه فارغا. ما علاقة ذلك بأنابوليس؟ اتفاق أنابوليس به كثير من الفقرات المهمة التي ربما تفاوض عليها الإسرائيليون والعرب لساعات إن لم يكن لأيام، ولكن عندما يكتب (جماعتنا) عن الاتفاق والمؤتمر لا تسمع منهم سوى كلام قيل منذ أعوام ينطبق على أنابوليس وكامب ديفيد وأي لقاء عربي ـ إسرائيلي. خر تفاهم عباس ـ اولمرت من عقول كثير ممن قرأوه أو قرئ عليهم أو سمعوا به.. أي، دخل الكلام من ناحية، وخرج من ناحية أخرى. ولم يبق في أذهان العرب سوى تحليلات مثقفي الشاشات، الذين لم يقرأ معظمهم ما حدث قبل التعليق عليه.

ولإخواننا الذين لا يعرفون كيف تصنع المقابلات التلفزيونية، أقول إن هناك مجموعة من المعدين التلفزيونيين، وهي مجموعة تتقاضى أقل أجر في أي قناة، يقول لهم المشرف على الفقرة الإخبارية «نريد محللين للتعليق على مؤتمر أنابوليس»، فيبحث المعد الغلبان في أدراج مكتبه عما لديه من أرقام تليفونات لأصدقاء وأناس رآهم على قنوات أخرى فاستبشر بطلعتهم، يبحث في تلك «اللستة» عمن يمكن أن يكون ضيفا. «اللستة» هي التى تفرض عليه الضيف، لا قدرة الضيف على التحليل. وإن «غلب حماره» كما يقولون، بدأ في سؤال أصدقائه عن معارفهم ممن يمكنهم الكلام حول فلسطين أو أنابوليس أو حتى عن الموسوعة الصهيونية. ليس ضروريا أن يكون المعلق قد تابع المؤتمر أو قرأ الاتفاق. وهكذا تصلنا زبدة القول وخلاصته من أناس لا يعرفون ولم يقرأوا. فقط هم سعداء بنجومية صورهم وجهلهم على الشاشة. كمية الجهل التي تحدثت عن أنابوليس قادرة على تشويش أي عقل، هذا الجهل هو بمثابة ماء النار الذي يخرم الصفيحة، لذا نجد أن معظم الناس «بيخروا».

زبدة أنابوليس : نجاح الدول العربية المشاركة في مؤتمر انابوليس في الحصول على تنازلات صعبة من الإسرائيليين والأميركيين معاً، نجاح لا يمكن إنكاره. فقد استطاع العرب (مصر والسعودية والأردن، والسعودية تحديداً) أن يحصلوا على سقف زمني لظهور الدولة الفلسطينية هو ديسمبر(كانون الأول) 2008. أي أن مدة التفاوض للتوصل إلى «معاهدة سلام» إسرائيلية ـ فلسطينية تبدأ من 12 ديسمبر 2007 وتنتهي في ديسمبر 2008. وكما يقول نص التفاهم المشترك: «نوافق على الدخول فورا في مفاوضات ثنائية للتوصل إلى معاهدة سلام». وبالطبع المعاهدات لا تكون إلا بين دول. إذن هي ليست اتفاقا بين دولة (إسرائيل) وحركة تحرر وطني (منظمة التحرير الفلسطينية). ثم يقول نص التفاهم: «حل كل القضايا العالقة، بما فيها القضايا الجوهرية، كما حددت في الاتفاقات السابقة». أي مدقق في النص يدرك أن كل عبارة في تلك الجمل تحتاج إلى ساعات من التفاوض. فالقضايا الجوهرية لا يمكن أن تعني إلا القدس واللاجئين والحدود. كما أن عبارة «كما حددت في الاتفاقات السابقة» تعني أن أوسلو وما بعدها من اتفاقات ما زال قائما، رغم أن فرقا كثيرة من اليمين الإسرائيلي ضغطت باتجاه إلغاء أوسلو. فكون أن تظهر هذه العبارة في نص التفاهم، فهو إنجاز لا يستهان به.

هذه هي النقاط الأهم في الفقرات الأولية للتفاهم المشترك، وأظن أن الإسرائيليين والأميركيين لم يوافقوا عليها بسهولة لولا ضغوط السعودية ومصر والأردن، وإصرارها على هذا النص.

ما حصل عليه الاسرائيليون في المقابل هو تنفيذ خارطة الطريق بجانبها الأمني تحت إشراف أميركي. وأعتقد أن هذا البند ليس مكسبا كبيرا للإسرائيليين، خصوصا أنه بعد أن سيطرت «حماس» على غزة، لم ينطلق أي صاروخ من صواريخ القسام تجاه إسرائيل. فمعادلة أمن إسرائيل مع «حماس» ليس لها بعد استراتيجي، المعادلة الأمنية بين الطرفين، كما سميتها في مقال سابق، هي «الهدنة مقابل الكهرباء».

رئاسة بوش على المحك : واضح أن الرئيس بوش وضع رئاسته في كفة وحل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي في كفة أخرى. حسب النص «تم التوصل إلى هذا التفاهم تحت رعاية الرئيس جورج دبليو بوش، رئيس الولايات المتحدة، ومشاركة الأطراف الدولية المشاركة في مؤتمر أنابوليس». وهذا يعني أن توقيع إسرائيل هذا التفاهم تضمنه أميركا ورئيسها، بينما يكون الضامن للتوقيع الفلسطيني هي الدول العربية والإسلامية المشاركة، وخصوصا الدول الإسلامية الكبرى مثل مصر والسعودية وتركيا، وتشهد الدول الأخرى على هذا الضمان. ويجب ألا تفوتنا الفقرة الأخيرة في التفاهم والتي تقول إن الولايات المتحدة هي الحكم في كل هذا، فهي التي ستحكم على مدى دقة تنفيذ خارطة الطريق، وهي التي ستحكم على تنفيذ أي اتفاقية سلام. تكرار كلمة «تحكم» في الفقرة الاخيرة من التفاهم توحي بالتزام شديد لا يقبل الشك إلا من المتآمرين.

المؤامرة: هذه الالتزامات تجاه فلسطين هي واحدة من مسارات تجمع أنابوليس الدولي، لكن نظرية المؤامرة خلف هذا المؤتمر ليست مستبعدة تماما هذه المرة، إذ يمكن تفسير هذا التجمع الدولي بما فيه الدول الإسلامية والعربية المشاركة على أنه تجمع لعزل إيران، وهي الدولة المتهمة برعاية الحركات الرافضة لهذا المؤتمر والرافضة للتسوية المقترحة. إسرائيل تنازلت عن الكثير في هذا التفاهم لأنها كسبت ولو شكليا وجود الدول الاسلامية والعربية الرئيسية معها في مؤتمر لا تحضره طهران. ويبقى السؤال: هل ستأتي ضربة إيران في ديسمبر 2008 مع بزوغ الدولة الفلسطينية أم قبل ذلك؟ الإسرائيليون اليوم مقتنعون بأن الفلسطينيين هم تهديد حدودي، بينما إيران النووية تشكل تهديدا وجوديا لهم.

مشاركة سورية : سورية شاركت بنصف قلبها، أي على مستوى نائب وزير الخارجية، ولكن المهم في مشاركة سورية هما قصتان، القصة الأولى هي تحريك قضية الجولان، والقصة الثانية هي محاولة سلخها عن تحالفها مع إيران. وواضح من مستوى مشاركة سورية هي أنها تضع رجلا هنا ورجلا هناك. الصفقة مع سورية هي صفقة إقليمية كبري، فلن يقبل الأميركان بالحديث الجاد مع سورية إلا في صفقة عناصرها هي «الجولان مقابل العراق ولبنان، والتخلي عن طهران»، ولهذا مقال مستقل. حتى لو أرادت إسرائيل الحديث مع سورية منفردة، فلن يقبل الأميركيون ذلك إلا في إطار هذه الصفقة. فهل نرى في المستقبل ضغوطا من مصر والسعودية وتركيا على سورية، أم نرى محفزات لسورية لفك الارتباط مع إيران؟ هذا ما سنرى بشائره في لبنان، لكن تظل المعضلة هي ما الذي سيأتي أولا في الصفقة السابقة.. هل تفك سورية ارتباطاتها أولا أم تدفع لها بعض المحفزات أولا؟ المهم في مشاركة سورية في مؤتمر أنابوليس أنها أخرجتها من مرمى نيران الحرب القادمة.

التطبيع مقابل الانسحاب والعكس :المشكلة ليست في الغرب، المشكلة عندنا في الناس «اللي بتخر»، الذين يتحدثون ويقرأون ويسمعون ولا يتذكرون سوى الشعارات. على العرب اليوم أن يسدوا هذه الثقوب في القضايا والبشر، عليهم أن ينضجوا إلى مستوى العلاقات الدولية الجادة. فالكلام الأجوف مثل «لا تطبيع.. ولا تفاوض..» إلى آخر تلك اللاءات، هو سلوك سياسي مراهق. المبادرة العربية باختصار هي: التطبيع مقابل الانسحاب. فإن لم يرد العرب التطبيع، فمن واجب الإسرائيلي تجاه شعبه عندئذ أن يقول لا للانسحاب. وبذلك سيظل كل من العرب والإسرائيليين يدورون في الحلقة المفرغة ذاتها.