المثقفون العرب بين الاستشراق والاستغراب

TT

كثيراً ما نتحدث عن الاستشراق والمستشرقين، لكن نادراً ما نتحدث عن الاستغراب والمستغربين. والواقع أن علم الاستغراب هو المقابل المضاد لعلم الاستشراق. فإذا كان الاستشراق يعني دراسة الحضارات الشرقية، فإن الاستغراب يعني دراسة الحضارة الأوروبية أو الغربية بشكل عام. لكن ينبغي الاعتراف بأن الاستشراق سبق الاستغراب، كظاهرة وكعلم. فهو كما يقول العارفون قد ظهر في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات التاسع عشر، مع حملة نابليون بونابرت على مصر (1798 ـ 1801). صحيح أن هذه الحملة فشلت سياسياً، لكنها نجحت فكرياً وأيديولوجياً. فقد شكلت بداية لتأسيس علم الاستشراق الحديث، وذلك لأن نابليون اصطحب معه أكثر من مائة وسبعة وستين عالماً، وكانوا ينتمون إلى شتى الاختصاصات من مهندسين، وفلكيين، وكيميائيين، وأطباء، وفلاسفة.. هكذا نجد أن إرادة القوة كانت مسنودة من قِبل إرادة المعرفة. لكن هذا لا يعني أن الاستشراق كله استعمار وهيمنة فقط. فهذا خطأ ارتكبه معظم المثقفين العرب للأسف الشديد.فالواقع أن الاستشراق هو علم بالمعنى الحقيقي للكلمة، وقد جمع معلومات كثيرة عن تراثنا ومجتمعاتنا.

فقد ساهم ثلاثمائة باحث في تأليف «وصف مصر»، وهو كتاب ضخم يحتوي على تسعة أجزاء صدرت بين عامي (1809 ـ 1828)، ويعتبر تأسيساً لعلم المصريات أو الحضارة المصرية بقدر ما هو تأسيس لعلم الاستشراق. في الواقع أنه مركز على تاريخ مصر القديمة، أي مصر الفرعونية، أي ما قبل الهيلينية وما قبل البيزنطية، وبالتالي ما قبل الإسلامية، لكنه يرهص أيضا بولادة علم الإسلاميات أو الاستشراق العربي الإسلامي، لأن علماء نابليون كانوا يهتمون أيضاً بدراسة المجتمع المصري في صيغته الحالية.

لقد كثرت رحلات الأوروبيين إلى منطقة الشرق الأوسط (مصر، فلسطين، سورية)، أثناء النصف الأول من القرن التاسع عشر، وساعد على ذلك انفتاح هذه المنطقة على الخارج بعد ضعف الإمبراطورية العثمانية والسياسة الإصلاحية التي انتهجها والي مصر: محمد علي. لكن هؤلاء الرحالة لم يكونوا عبارة عن مستشرقين حقيقيين، إنما كانوا في معظمهم كتاباً يبحثون عن الإلهام في عبق الشرق وأجوائه الساحرة. نذكر من بينهم شاتوبريان، لامارتين، اليكسندر دوما، جيرار دونيرفال، الذي ألف كتاباً ضخماً بعنوان: «رحلة إلى الشرق». كما نذكر أيضا غوبينو، فلوبير.. إلخ. ثم جاء دور كبار المستشرقين الأوروبيين الذين رحلوا إلى الشرق بهدف الدراسة العلمية للغاته، وتراثاته الدينية، وعاداته وتقاليده. نذكر من بينهم الفرنسي ارنست رنيان، والألماني كارل بيكر، والهنغاري الألماني اللغة غولدزيهر، والهولندي هيرغرونجيه. ومنذ تلك الفترة برهن الاستشراق الألماني على حيويته الكبيرة. وقد تركز بشكل أساسي على دراسة النصوص العربية الإسلامية الكلاسيكية وتحقيق المخطوطات بشكل لغوي وتاريخي دقيق. ولم يهتم كثيراً بدراسة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات الإسلامية كما كانت سائدة في تلك الفترة. في الواقع كان هدف الاستشراق الألماني في البداية هو دراسة البيئة التي ظهرت فيها المسيحية أكثر مما هو دراسة الإسلام. وبالتالي فإنه ركز على الدراسات السامية المرتبطة بالدراسات التوراتية والإنجيلية.

لكن الاستشراق لا ينحصر فقط بالدراسات العربية والإسلامية على عكس ما نتوهم. فهناك استشراق متخصص بدراسة الشرق الأقصى وحضاراته وثقافاته. نذكر من بينه الاستشراق المتركز على الدراسات الهندية، أو الصينية، أو اليابانية. صحيح أن الأوروبيين اهتموا بنا قبل غيرنا لأسباب عديدة، ليس أقلها القرب الجغرافي، ثم لأن منطقتنا تحتوي على المقدسات المسيحية التي تشكل الدين الأساسي للغرب، لكنهم بعد أن قويت حضارتهم وازداد غناهم، راحوا يهتمون أيضاً بدراسة الأديان والتراثات غير التوحيدية. وهكذا نجد في أقسام الاستشراق في الجامعات الغربية قسماً مهتماً بدراسة التراث الإسلامي، وقسماً مهتماً بدراسة التراث الهندوسي، وقسماً مهتماً بدراسة البوذية والكونفوشيوسية وتراث الصين، وقسماً مهتماً بدراسة التراث الياباني. هكذا نجد أن الغرب الأوروبي أصبح قادراً على دراسة جميع الحضارات الكبرى التي توالت على البشرية بسبب تفوقه التكنولوجي والعلمي على جميع مناطق العالم بدءاً من القرن التاسع عشر. وعلى هذا النحو ظهر كبار المستشرقين في ألمانيا، وفرنسا، وانجلترا، وهولندا.. الخ. فالمستشرق هو شخص أوروبي اختار أن يكرس حياته لدراسة تراث آخر غريب عن تراثه. وبالتالي فهو وسيط ثقافي بين ثقافته الخاصة والثقافة الشرقية التي يدرسها. فالمستشرق الفرنسي مثلاً، إذ يدرس التراث الإسلامي مضطر لتعلم العربية من أجل فهم المخطوطات والنصوص. وأحياناً يجيء إلى بعض بلداننا أو جامعاتنا من أجل اتقان اللغة بشكل أفضل والتعرف على الثقافة والتراث والشعب.. وفي بعض الأحيان يصل إعجابه بتراثنا وحضارتنا إلى حد اعتناق الدين الإسلامي كما حصل لفانسان مونتيل مثلاً، الذي حول اسمه إلى فانسان منصور مونتيل. وبالتالي فدراسة التراثات الأخرى تمثل عملية تفاعل ثقافي بالمعنى الغني والرائع للكلمة. والانفتاح على ثقافات الآخرين أو على لغاتهم وتراثاتهم الدينية والأدبية والفلسفية، يمثل مغامرة كبيرة حقاً. وهو يؤدي إلى تغيير الشخصية أو إجراء تعديل عليها فتصبح منفتحة أكثر بكثير من السابق.

لكن ماذا عن المستغربين؟ ماذا عن أولئك الذين يمشون في الاتجاه المعاكس، أي الذين يدرسون ثقافة الغرب وحضارته؟. فهؤلاء أيضاً يمثلون وسطاء ثقافيين بين العرب وأوروبا، أو بين الأتراك وأوروبا، أو بين الفرس وأوروبا.. الخ. وإذا كان المستشرقون يدرسون حضارات الشرق من إسلامية أو هندية أو صينية أو يابانية، فإن المستغربين يدرسون حضارة الغرب سواء أكانت فرنسية، أم ألمانية، أم إنجليزية، أم أميركية.. الخ. وقد ابتدأت البعثات تجيء إلى جامعات الغرب كالسربون، وبرلين، واكسفورد، وكمبيردج، وسواها منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر. ثم استمرت على هذا النحو حتى يومنا هذا. وهذه البعثات هي التي شكلت أفواج المثقفين العرب بالمعنى الحديث للكلمة بدءاً من رفاعة رافع الطهطاوي وانتهاء بأساتذة الجامعات المعاصرين، مروراً بأحمد لطفي السيد وطه حسين ومحمد مندور وعشرات غيرهم. فالمستغرب هو ذلك الشخص الذي أمضى قسماً من حياته في دراسة إحدى اللغات الأجنبية كالفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية.. كما أنه شخص مطلع على الثقافة الأوروبية الحديثة وعلى مناهج البحث العلمي من خلال إحدى هذه اللغات أو أكثر من لغة. وبالتالي فهناك علم للاستغراب بقدر ما هناك علم للاستشراق. وعلم الاستغراب ليس محصوراً بالعرب أو بالمسلمين، إنما هو موجود أيضاً لدى اليابانيين، والصينيين، والهنود، وسواهم. فبعد انتصار الحضارة الأوروبية في القرن التاسع عشر وتفوقها علمياً وتكنولوجياً وفلسفياً، أصبحت جميع الشعوب تتطلع نحوها وتريد التعرف عليها لكي تدرك سرّ نجاحها وتفوقها. وهكذا انفتحت اليابان على أوروبا بعد أن كانت منغلقة على نفسها طيلة قرون وقرون. إن تغريب اليابان أو استغرابها ابتدأ مع سلالة «الميجي»، التي حكمت اليابان منذ أواخر الستينات من القرن التاسع عشر. بالطبع فإن محاولات الانفتاح كانت قد سبقت ذلك التاريخ، لكنها كانت متقطعة وجزئية. لقد طرحت سلالة «الميجي» شعار «الانفتاح على الحضارة والتنوير»، لكي تلحق اليابان بركب العالم المتقدم. فقبل عهد «الميجي» كان عدد الطلاب الذين أرسلوا إلى الخارج للدراسة لا يتجاوز الثلاثمائة. وأما بعد ذلك العهد فقد أصبح بالألوف. وطلبت منهم السلالة الحاكمة أن يرجعوا بكل علم الغرب في شتى الاختصاصات من طب، وهندسة، وتكنولوجيا.. الخ. وقد لعب المفكر «فوكوزاوا يوكيشي» (1835 ـ 1901)، دوراً كبيراً في هذا المجال. فبعد أن قام برحلة إلى الغرب، راح يدعو إلى إجراء تغيير عام وشامل على اليابان. وراح يدعو إلى استغراب كامل. ثم ابتدأت أولى الترجمات من اللغات الأوروبية إلى اللغة اليابانية. وهكذا نقلت مؤلفات مونتسكيو، وجان جاك روسو، وجون ستيورات ميل، وسبنسر.. الخ. لكن في اليابان، كما في البلدان العربية وكما في الهند أو الصين، فإن الكتب لم تكن هي وحدها التي تمثل الحداثة، إنما كانت هناك الصحف أيضاً والمجلات. وبدءاً من حلول عهد «الميجي»، فإن المثقفين اليابانيين راحوا يهتمون كثيراً بالصحافة. وقد ظهرت أول جريدة يابانية في مدينة ناغازاكي عام (1861)، وكانت بالإنجليزية. وفي العام التالي ظهرت أول جريدة باللغة اليابانية، وعندئذ اندلع صراع بين تيار يدعو لانفتاح البلاد على الخارج من أجل تحديثها، وتيار يرفض هذا الانفتاح ويدعو إلى طرد البرابرة: أي الأجانب!. فكل من ليس يابانياً كان يعتبر بربرياً أو همجياً في نظر الأصوليين اليابانيين.

هذا يعني أن اليابان شهدت نفس الصراع الداخلي الذي شهدته الحضارات الكبرى تجاه مسألة الاستغراب. وبالتالي فهذه العملية ليست حكراً على المسلمين، أو الهنود، أو الصينيين. في كل أمة هناك تيار يدعو للمحافظة على الأصول والهوية والتراث ويعتبر الانفتاح على الخارج تهديداً لثوابت الأمة وقيمها. لذلك فإني استغرب نعت المسلمين أو العرب فقط بالأصولية، وتبرئة اليابانيين أو الهنود أو الصينيين منها. لا ريب في أن تيار التحديث قد انتصر أخيراً في اليابان، لكنه لم ينتصر إلا بعد أن خاض صراعات مريرة مع التيار الأصولي الذي يقدس شخص الإمبراطور ويعتبر أن عقيدة اليابان هي وحدها العقيدة الصحيحة وكل ما عداها خاطئ وضال.. فتيار الأصولية اليابانية راح يعلن بأن اليابان سوف تفقد روحها إذا ما انفتحت على الحضارة الغربية، وهذا ما يعلنه الأصوليون في كل الحضارات الأخرى. ننتقل الآن إلى الصين. يمكن القول بأن المفكر «ين فو» (1853 ـ 1921)، هو أب الانتلجنسيا الصينية الحديثة، وهو الذي دشن حركة الترجمات الكبرى التي سوف تؤدي لاحقاً إلى تغيير المشهد الثقافي والأيديولوجي للصين. كما أنه أحد آباء الصحافة الصينية الجديدة. وكان قد درس في إنجلترا لمدة سنتين، وبالتالي فهو يعرف الغرب عن كثب وليس فقط من خلال الكتب. وكان من أوائل الصينيين الذين يتقنون التحدث بلغة شكسبير، وقد ترجم بنفسه عدة كتب لمفكرين أوروبيين من أمثال سبنسر، وهكسلي، وآدم سميث، ومونتسكيو.. الخ. كما كتب مباشرة عدة كتب. وكان معجباً بالحضارة الغربية، ويعتقد بتفوقها على الحضارات الأخرى. ولهذا السبب ابتدأ ينقد التراث الصيني التقليدي الذي اتهمه بالجمود. وعندئذ اصطدم بالأصوليين الكونفوشيوسيين، الذين اتهموه بالزندقة والعمالة للغرب!. واشتعلت المعركة بين المثقفين الصينيين التحديثيين والمثقفين الصينيين التقليديين، تماماً كما حصل لدى الهنود، والمسلمين، واليابانيين.. الخ. في الواقع أن الكونفوشيوسية تعتبر عقيدة فلسفية أو مدرسة فكرية بالنسبة لمعظم الصينيين، لكنها ليست ديناً بالمعنى المتعارف عليه في المسيحية أو في الإسلام. فمفهوم الدين كما نعرفه غير موجود في الصين. لكن العقيدة الكونفوشيوسية تتمتع بقداسة لا تنكر، وهي عبارة عن أيديولوجيا رسمية للسلطة، أي نوع من العلم السياسي، بالإضافة إلى كونها عقيدة أخلاقية وروحية لأغلبية الشعب الصيني. وبالتالي فهي تقوم مقام الدين. وتعلّق الصيني التقليدي بها لا يقل قوة عن تعلّق المسيحي أو المسلم بدينه، بل إن بعض الأصوليين الصينيين يقولون إنها العقيدة الوحيدة الصحيحة وينبغي أن تسود العالم كله يوماً ما.