أحلام الشتاء

TT

لم أحلم يوماً حلماً إلا بسيطاً. في معظم المراحل، حتى في الطفولة، حلمت بأن أبقى الى جانب الطبيعة. الغابة والحرج والساقية. وبضعة عصافير لا يطارد صداحها الصيادون. ولأن الأماكن لا تصنع الذكريات، فطالما توسَّط أحلامي من أحب من الناس. وأحياناً لا مانع بالوحدة، محصنة بعدد من الكتب. (كم؟ لا أدري). وبشيء من الموسيقى. والباقي متروك للعصافير، وهي فازعة من البرد في أماسي الشتاء، أو هي متعبة من الفرح، عشايا الصيف، ولا شيء تقريبا غير ذلك. فالطبيعة توفر لنا الجمال والطمأنينة وتغني عن متاهات المدينة. وكانت تقوم بيني وبين الشجر والطيور والفراشات علاقة تغني عن قباحات السياسة وبشاعة السياسيين. هناك أشجار أتابع نموها وأحاكيها وأتمنى لو أضفت اليها رفيقات أخر. أشجار السفرجل والليمون والرمان. وعندما ذهبت الى قبرص طفقت أبحث عن ليمونات لورانس داريل، لكن قبرص كانت قد بدأت تتحول من بستان في قلب البحر الى حلبة فنادق وشقق للايجار. ومن أجل ذلك بدأت بقلع شجر الليمون، ثم بحصدها. وكان لي ان امتع النفس بكل احاسيسها على سواحل امالقي وفي هضابها، حيث تتجاذع اشجار الليمون متلاصقة متماسكة بلا نهاية وبلا ملل وترسل عطرها المرَّ على مدى ما حولها. ولأن حديقتي على مرتفع تجلد فيه براعم الليمون في الشتاء، فقد نجحت في العثور لها على جلول لا تضربها رياح الشمال، ولا يتسلق الجليد أغصانها. ومضى وقت طويل لم أذهب الى لبنان والقرية والحديقة. وعندما تذهب زوجتي أطلب منها أن تتفقد بصورة خاصة السفرجل والليمون وجل الرمان. وتخبرني أن جل الرمان أصبح مثل لوحة احمرت اعاليها ويبس العشب في الجزء الاسفل منها.

لا تغني حدائق باريس وباركات لندن عن البستان الصغير أمام البيت. ثمة شعور مفقود أمام هذه الأشجار والبحيرات وتهادي البجع. انه الشعور بالحميمية والانتساب. البستان الصغير هو حيازتك، في الفجر وفي المساء، هو دفتر الذكريات وسقي الورود ونمو شجر الغار حول البيت سور مليء بالنسائم ليرد الفضول ويوسع مدى حميميتك وانصرافك الى الذات. وكم هو شاق الانصراف اليها. لذلك يفضل المرء ان يظل مع الشجر والطيور والفراشات التي لا ندري من أين تأتي هي وألوانها، والى أين تغيب وتبقى القنافذ حولنا، نعرف انها دخلت أوكارا قريبة. ويظل طير ما يؤنس، بتغريدة أو رفة جناح، وأحيانا بموال طويل، كأنما خيل اليه ان الصيف عاد، وما هو الا شروق فضي عابر مرَّ يوزع الدفء بحنان غريب.

هل نستحق كل هذا؟ لا. يستحقه المتأملون المستمتعون الذين لا يريدون ان يحولوا كل هذا الجمال الى زاوية مكتوبة. يستحقه الذين يريدون ان يبقوها سرا، تلك العلاقة التي لا تفسر مع مشهد جل الرمان وعرائش البوغانفيليا وثلاثة عصافير تهزج فوق صنوبرة الدار، لا يهمّها ماذا يدور حولها. بي حنين حميمي الى قعدة الحديقة وشجرات الليمون المقفية خلف السنديان، خوفاً من ريح الشمال. ولكن عليَّ الانتظار. ثمة قباحات سياسية يجب أن تنتهي لكي تعود الطبيعة إلى جمالياتها.