كل إرهاب وانتم بخير!

TT

دوما، وبعد كل إعلان أمني سعودي عن القبض على مجموعة أصولية إرهابية، يتجدد الحديث عن : أين الخلل؟

قبل يومين أعلن عن القبض على 28 شخصا، الأمر الذي يعني انه في ظرف شهرين، تكرر الإعلان عن تمكن وزارة الداخلية من القبض على مجموعة من المنتمين للهوى القاعدي، ففي الشهر المنصرم أعلن عن القبض على 208 اشخاص، وقبل ذلك في شهر ابريل الماضي تم القبض على شبكة بلغت 172 شخصا. وفي يناير من هذه السنة الموشكة على الرحيل أعلن عن القبض على عشرة أشخاص من الممولين للعمل القاعدي في السعودية.

هذه لمحات سريعة عن إيقاع المواجهة الأمنية المتواصلة، وهنا يجب ان نستذكر «الحكي الكثير» عن المواجهة الفكرية والتربوية، والدعاية المتكررة لعمل لجان المناصحة.

تحدث كثيرون عن حالة «الكساح» الفكري في النزال مع «فكر القاعدة» لا عسكرها وخلاياها.

في تقديري أن هناك ضجيجا إعلاميا، وانشغالا دعائيا بالترويج للنجاحات الكبيرة للدرجة التي جعلت دول الشرق والغرب تتهافت على هؤلاء المناصحين من اجل استيراد التجربة، ولكن على الأرض، وبعيدا عن هذه الزفة الإعلامية، نحن نلامس حواف الأشياء لا بطونها، سطوحها لا أعماقها، والسبب واضح: بعضنا يتوهم أن المواجهة الفكرية الحقيقية تقود الى طرح أسئلة جريئة لا تتحمل الذات الجماعية وقعها ولا تبعاتها، أسئلة من طراز: هل يصلح هذا النوع من الخطاب الديني المتداول لمكافحة فكر القاعدة ومنع فعاليته في المجتمع ؟ هل نعاني من وجود تعصب ديني واجتماعي ظاهر سهل لفكر القاعدة أن يؤثر على من تأثر؟

أسئلة دائما ما يلتف إليها البعض بأجوبة هروبية لا هجومية.

وهي أسئلة إذا لم يجب عليها بشكل حقيقي فسوف تطول المواجهة من «فكر الإرهاب» وربما تتطور وتتنامى بما لا قبل لأحد به.

لا أدعي القدرة على الإجابة، ولكن أدعو إلى طريقة تفكير سعودية، جديدة، في هذه المعضلة التي تفتك بالمجتمع منذ أن ضربت القاعدة في مايو 2003 .

هنا أريد إثارة نقطة مهمة، لماذا نفكر دوما بالنتيجة وننسى المقدمات؟ أعني لماذا نركز على الإرهاب، المرفوض عادة، ونغفل عن التعصب؟ أليس التعصب هو رحم الإرهاب، فكل إرهابي هو بالضرورة إنسان متعصب، ولكن ليس من شرط المتعصب الديني أن يكون إرهابيا.

لقد أكلنا يوم أكل الثور الأبيض، يوم تهاونا في الانتباه لمساحات السماحة والعفوية التي كانت تتآكل في مجتمعاتنا شهرا وراء شهر، وسنة بعد سنة، وأغلبنا كان يتحاشى رؤية ما يجري ويتجاهله.

دعونا نمر على بعض الأمثلة التي تبين أن الغفلة عن حماية التسامح والعفوية في البداية، تورث نتائج ووقائع على الأرض يعسر تغييرها لاحقا، وتدخلنا في حفلة مزايدات دينية لا نهاية لها.

قرأت تحقيقا كتبه الصحافي السعودي ممدوح المهيني في جريدة «إيلاف» على الانترنت عن التحولات التي طرأت على كلية الطب في جامعة الملك سعود بالرياض في السنين الأخيرة، وهو تحقيق يصيب المراقب بالدهشة لحجم التحولات التي تحدث رويدا، حتى تخلق واقعا آخر.

يشير التحقيق إلى أزمة يتعرض لها عميد الكلية، وهو إنسان متدين ومحافظ، بل وأدخل سمات محافظة جديدة على الكلية، مثل إلزام الطالبات بارتداء التنانير السوداء الطويلة، وغير ذلك، لكن هذا لم يشفع له لدى الأكثر غيرة على الدين وطلبا لمجتمع أنقى. عميد الكلية تعرض لهجمة منهجية بسبب إصراره الحفاظ على الحد الأدنى من الشروط المهنية والأكاديمية في دراسة الطب، بما في ذلك تمكين الطلاب والطالبات من التدريب السريري الذي يعني تعرف المتدرب على الجسد البشري، ذكريا كان أم أنثويا، حتى يعرف التعامل معه طبيا، خصوصا في حالات الأزمات.

« 14 من الأطباء الذين يعملون تحت إدارة عميد الكلية قاموا بما يشبه

العصيان الداخلي عندما قاموا بالضغط عليه لفرض سياسة تعليمية جديدة تقضي بإرغام طلاب وطالبات الكلية ومستشفى الملك خالد الجامعي بالمعالجة والتدرّب على المرضى الذين ينتمون فقط للجنس نفسه، ومنعهم بشكل كامل من الكشف على الجنس الآخر».

ونجح الأطباء «الأنقى» في تحشيد الرأي الأصولي والمحافظ بشكل عام خلف مطالبهم إلى درجة أصبحت فيها الحملة لا تطاق في الانترنت وفي المجالس، حتى توهم البعض أن الذي يدير الكلية هو إنسان لا همّ له إلا إفساد الأخلاق العامة، وتحول الهاجس في الكلية من الطب إلى الجنس والعفة.

التحقيق مثير، وهو مجرد نموذج يمكن رؤية مثيل له، بدرجات مختلفة، في كليات وأقسام أخرى، كما يخبرني احد أساتذة قسم العلوم السياسية في جامعة الملك سعود.

هذا العمل التحتي في المجتمع من خلال إعادة صياغة ذوقه ووعيه وثقافته، بالسيطرة على منافذ المجتمع وجامعاته وكلياته وجمعيات النفع العام.. شيمة معروفة لدى الأحزاب الأصولية المسيسة، ولنقل الأحزاب الشمولية كلها، ولكن معضلتنا منذ عقود هي في الأحزاب الأصولية، فمن خلال الإمساك بالمجتمع والحلول في شرايينه، تتم إدارة الدفة وفرض واقع جديد، يصعب على السياسي وصاحب القرار أن يغيره، لو أراد، وإن حاول فسيحتاج إلى جهد اكبر بكثير فيما لو أنه بادر منذ البداية. المسألة هنا هي في تحول هذه الجماعات الى «مرجعيات» تقرر المسموح والممنوع في المجتمع، وتخلق مزاجا جديدا، يدخل فيه الجميع، أو أكثرهم، إما إيمانا، أو تقليدا، أو كفا للشر.

هذه الشيمة ليست خاصة بالأصوليين المسيسين في السعودية، ولا حتى في الجماعات السنية، وان كان الإخوان المسلمون في مصر لهم الريادة في هذا التكتيك المرحلي البطيء، بل هو شيمة عامة لكل الأحزاب الأصولية، وأبرز مثال لها في المقلب الطائفي الآخر هو حزب الله اللبناني «الخميني الهوية» .

فما نراه اليوم من استعصاء الحزب الإلهي على الجميع، والاصطفاف الآلي خلفه من قبل أشياعه، يعود ـ ضمن أسباب أخرى ـ إلى مرحلة طويلة من الإعداد والقولبة للمجتمع الشيعي اللبناني، وفرض نمط جديد من الثقافة العامة، وصولا إلى إنشاء «دولة حزب الله» الداخلية، حسب العنوان الشهير للكاتب اللبناني وضاح شرارة في كتابه الذي حمل هذا العنوان.

في هذا الكتاب يشير شرارة إلى تبكير هذا الوعي بالهدف الانقلابي الاجتماعي لدى قادة الحزب وعقوله، وينقل عن إبراهيم أمين السيد أحد رموز الحزب، ورئيس مجلسه السياسي، ينقل عنه قوله في مقابلة أجرتها معه مجلة «الشراع» الأسبوعية، ونقلتها نشرة «العهد» التابعة للحزب (21 ذو القعدة 1404 هجري)، نقل عنه قوله: «المفروض أن تعيش المنطقة الإسلام من جديد، فيكون المتسلط على هذه الشعوب هو الإسلام، وليس الإنسان». ويعلق شرارة بأن هذا التوجه يعني لدى الحزب الخميني اللبناني: «صوغ روابط اجتماعية وأهلية، صوغا جديدا، يدور على فكرة الإسلام».(دولة حزب الله 210).

والإسلام المعني هنا هو الإسلام كما يفهمه الخميني، لأن القيادي «الحزب الالهي» كان يتحدث عن مفهومه لتصدير الثورة الإيرانية.

وعمليا حدث هذا الصوغ الجديد للمجتمع والأمة، أمة حزب الله، في وضع النساء والأزياء والمطاعم والمفردات الجديدة... كما يرصد ويراقب فادي توفيق في كتابه «بلاد الله الضيقة». وكان من الطرائف التي ذكرها توفيق ضمن مسوغات الحزب لانشقاقه عن حركة أمل الشيعية وتكوينه للحزب الإيراني ـ الكامل الإيرانية والنقاء ـ هو انحراف أمل عن خط موسى الصدر، حتى في مظهر قائد أمل، نبيه بري بلحيته الحليقة بالشفرة!

الغرض من هذا الكلام هو أن المواجهة مع النتائج هي أكبر بكثير وأقدم مما يتخيله الواهمون، فمناطحة التعصب والتصحير الاجتماعي هي الحلبة الأولى التي تتم فيها وقاية الناس من إمكانية التكاثر الإرهابي. وأن التساهل مع التعصب يعني إضعاف النجاعة في مواجهة هذا التعصب إذا ما قرر أن يصبح «بعضه» إرهابا.

في النهاية: ما مضى ليس تفسيرا للإرهاب، بل إشارة إلى جانب من جوانب الخلل في الفهم، كما أن ما سلف لا يعني ان المتعصبين بالضرورة هم من الإرهابيين، لكنه يعني أن التعصب هو ميدان المواجهة «الفكرية» الحقيقية، اذا ما رغبنا في البداية الصحيحة. وإلا فإننا سنجد أنفسنا في نهاية كل سنة من السنوات المقبلة نقول: كل إرهاب وانتم بخير.