دعوة لتبديد الغيوم في العلاقات العربية التركية

TT

حين اجتمع رؤساء حكومات دول الاتحاد الأوروبي الـ27 في لشبونة في (11/12) لتوقيع معاهدة التعاون فيما بينهم، التي تحل محل الدستور الموحد الذي رفضه الفرنسيون والهولنديون، فإنهم اختاروا إقامة الاحتفال الرسمي بالتوقيع في «دير» بالعاصمة البرتغالية، معروف باسم دير جيرونيموس الذي بني على الطراز القوطي في القرن السادس عشر، ولأننا نعرف أن أماكن مثل هذه الاحتفالات ذات الأهمية التاريخية لا يتم اختيارها اعتباطاً، وإنما تراعى فيها اعتبارات عدة، الرمزية من بينها ورغم ان وسائل الإعلام العربية اهتمت بموضوع المعاهدة إلا أنني وجدت أن مكان توقيعها من الأهمية بمكان توقيعها لأنه حين توقع 27 دولة أوروبية اتفاق التعاون بينها في مقر دير تم بناؤه بعد خروج المسلمين من الاندلس، فإن ذلك الاختيار يبعث إلى كل من يهمه الأمر برسالة من شقين، أولهما أنه يكرس الطابع المسيحي للاتحاد الأوروبي، وثانيهما أنه يكاد يغلق الباب أمام تركيا (72 مليوناً 99.6% منهم مسلمون) التي تحاول جاهدة الانضمام إلى ذلك الاتحاد.

هذه الرسالة تأتي في أعقاب التوتر الحاصل بين أنقرة وباريس بسبب انحياز فرنسا إلى جانب الأرمن في مشكلتهم مع تركيا واتهامهم لها بارتكاب مذابح بحقهم في المرحلة العثمانية، وبسبب الموقف الفرنسي الرافض لانضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي، وتشجيعها الدول الاوروبية الأخرى لأن تحذو حذوها الأمر الذي يضعف من أمل الحكومة التركية في تحقيق الهدف الذي تسعى اليه منذ حوالي نصف قرن. وهي التي انضمت في عام 59 الى المجمع الاقتصادي الأوروبي وتقدمت بطلب عضوية الاتحاد حين كان عدد الدول التي أسسته لا يتجاوز ست فقط، ولا يزال طلبها منظوراً بعدما أصبحت منظومته تضم 27 دولة. صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت تضغط لقبول عضوية تركيا للاتحاد الاوروبي، إلا أن بعض الساسة الأوروبيين اعتبروا تلك الضغوط تستهدف تحقيق المصالح الأمريكية التي لا تتطابق تماماً مع المصالح الأوروبية.

على صعيد آخر، فإنه حتى مشروع الرئيس ساركوزي لإقامة ما أسماه بالاتحاد المتوسطي، الذي يريد له أن يضم الدول المطلة على البحر الأبيض، استثنى تركيا، في حين وضعت إسرائيل في قلبه وهو أمر لا يفسر إلا بحسبانه موقفاً اقصائياً لها لا يستبعدها فقط من الاتحاد الأوروبي، ولكنه يستبعدها أيضاً من هذا المشروع الذي لم تتبلور فكرته بعد.

هذه الملابسات تعيد تركيا إلى الأزمة التي واجهتها منذ عشرينيات القرن الماضي، بعد إلغاء الخلافة الاسلامية وتولي الكماليين للسلطة، وانتهاجهم منذ ذلك الحين سياسة تغريب تركيا وهو النهج الذي وصفه بعض الباحثين بأنه استهدف إبعاد تركيا عن موقع صدارتها في العالم الإسلامي.

صحيح أن تركيا الآن لا يمكن أن توصف بأنها في مؤخرة الغرب، بعدما نهضت وأصبحت واحدة من أهم 15 دولة صناعية في العالم، إلى جانب أنها تحتل المرتبة السادسة بين أفضل الدول المنتجة والمصدرة للمنسوجات إضافة إلى كونها قوة عسكرية يحسب حسابها، إلا أنها في النهاية تظل واقفة بباب الغرب ولا يراد لها أن تنضم إلى «ناديه» الذي يريد بعض الساسة الأوروبيين اغلاقه على الدول المسيحية. إن شئت فقل أنهم في أحسن الفروض يريدون أن تظل علاقتهم مع تركيا مجرد «خطبة» دائمة، لا تنتهي بزواج!

السؤال الذي يراودني منذ شرعت في كتابة السطر الأول من هذا الكلام هو: لماذا لا يطرح العرب «مبادرة» تحتضن تركيا، بدلاً من أن تظل في حيرتها على أبواب أوروبا، وبدلاً من أن تستثمر إسرائيل لصالحها تلك المسافات المتباعدة بين أنقرة والعواصم العربية، وبدلاً من ان تظل الولايات المتحدة هي الحليف القوي الذي يساند تركيا ويدعمها؟

أدري أن رجال الأعمال الأتراك لهم نشاطاتهم الواسعة في العالم العربي والإسلامي، وان منظمة «موصياد» التي تضم عدداً ضخماً من الصناعيين الأتراك دأبت على إقامة معارضها الدولية كل عام التي تشارك فيها وفود من أكثر من 40 دولة إسلامية (المعرض الحادي عشر أقيم في أبو ظبي خلال شهر نوفمبر الماضي)، لكنني أتحدث عما هو أبعد من ذلك. اتحدث عن رؤية استراتيجية للتعامل مع تركيا باعتبارها أحد أهم ثلاثة أعمدة في بنيان الشرق الأوسط (الدولتان الاخريان هما مصر وإيران). حيث تعداد كل دولة يتجاوز 70 مليونا، وكل واحدة منها لها موقعها المميز وإمكاناتها الكبيرة وثقلها الحضاري المعتبر. وفي أي تفكير استراتيجي فإن التعاون مع الدول الثلاث من شأنه أن يغير من توازنات المنطقة ويعيد رسم خرائطها. ويضيف إلى المعادلات الدولية معادلة جديدة، يمكن أن توقف العبث الدولي بالشرق الأوسط، الذي يستبيح حاضرها ومستقبلها سواء تمثل ذلك العبث في المخططات الأمريكية أو بألاعيب وحيل الرباعية الاوروبية.

وإذا بدا ذلك الطرح بعيداً لأسباب يطول شرحها، فإن التوافق العربي التركي يظل على حدود الممكن، خصوصاً أن الطريق أمامه ممهدة ولا تعترضها العقبات الموضوعة في الطريق إلى طهران. وإذا قال قائل انه طالما كان الطريق مفتوحاً فإنه ليس هناك ما يحول دون التقدم عليه من أي جانب. وهذا صحيح تماماً. وهو ذاته موضع التساؤل الذي تردده بعض العناصر السياسية في أنقرة واسطنبول. والتساؤل الذي سمعته أكثر من مرة من بعض الباحثين الأتراك المهتمين بالموضوع كالتالي: لماذا غابت «الحرارة» من خطوط الاتصال بين أنقرة وبين مختلف العواصم العربية؟ إنهم يتحدثون بإيجابية عن الزيارات التي قام بها لأنقرة بعد تولي الرئيس عبد الله جول لمنصبه كل من العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، والرئيس السوري بشار الأسد، والعاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين، ويقولون ان تلك الزيارات عبرت عن المودة والرغبة الصادقة في مد الجسور ثم يضيفون أن عودة الدفء في العلاقات يتطلب جهوداً متواصلة من جانب مختلف الفعاليات على الجانبين.

في هذا الصدد يقولون ان الرئيس جول سيقوم من جانبه بمسعى في هذا الصدد، حيث سيزور مصر خلال الربيع القادم، وسوف يصطحب معه وفداً من رجال الأعمال في حدود 400 شخص. وأنه يريد بذلك أن يقوي العلاقات السياسية والاقتصادية، وإذا تعذر الجمع بين الحسنيين وتعثرت الأولى فربما كان البديل الثاني أكثر قبولاً. وفي كل خير.

يقولون أيضاً ان حكومة حزب العدالة والتنمية تعتبر أن تمتين العلاقات مع العالم العربي والإسلامي من بين ركائز سياستها الخارجية. وقد سمعت من الدكتور أحمد داود أوغلو، أحد مستشاري رئيس الوزراء التركي قوله ان بلاده ترفض أن تكون مجرد جسر بين الشرق والغرب، وإنما تتطلع لأن تقوم بدور فاعل في تنشيط العلاقات بين الجهتين، ولذلك فهي حريصة على إثبات حضورها في منطقة الشرق الأوسط على الأقل، خصوصاً في الملفات المتعلقة بالعراق ولبنان وفلسطين. لكن ذلك الحضور سيكون أكثر فاعلية إذا تم في مناخ الحماس والتجاوب من الجانب العربي.

لقد اشتركت في ندوة أقيمت في اسطنبول قبل أيام قليلة في (15 و16/12) حول الحوار التركي المصري، نظمت بالتعاون بين برنامج حوار الحضارات بجامعة القاهرة، ومنتدى «أبانت» التركي للحوار مع العالم الخارجي. ولست هنا في صدد عرض وقائع الندوة التي تحدثت عنها في مقام آخر، لكن احدى الخلاصات التي خرجت بها مما سمعته من الأكاديميين والخبراء الأتراك، أنهم لم يتلقوا من العالم العربي رسالة تعبر عن حماس حقيقي للتعاون مع تركيا، وهو ما يحيرهم، لأنهم لا يجدون سبباً قوياً لاستمرار ذلك الفتور. ولأنني بدوري أشاركهم الحيرة ذاتها، فإنني تمنيت أن يقوم الأمين العام لجامعة الدول العربية بزيارة إلى أنقرة لمحاولة فهم الموقف التركي وتفسير الموقف العربي، حيث من المؤكد أن ثمة مصلحة حقيقية للطرفين في إزالة الغيوم والالتباس المخيمة على مجرى العلاقات بينهما.