المملكة المفخرة

TT

لا أخفي انتقادي للكثير مما لدينا في الخليج كخليجي، ولكني لا أخفي أنني مع استقرار وبقاء الأنظمة الحاكمة في الخليج وتطورها إلى ما هو أفضل، فلئن انتقدت، فذاك واجبي، وإن مدحت، فذاك فخري.

أتحاشى دوما نقد الأفراد سوى الدكتاتوريين، وأنتقد السياسات، وإن مدحت، مدحت مواقف وسياسات أيضا، والمديح لا يعني شيكا سرمديا بعدم العودة إلى النقد، لأن ذلك يدخلنا في باب النفاق، ويسير من يدعي التزام قلمه على حبل مشدود، فلا هو يريد الانزلاق نحو التملق والنفاق، ولا يريد أن يبخس الأشياء حقها تحاشيا لهذه التهمة.

هي مفخرة بكل المقاييس، مفخرة إنسانية، مفخرة دينية، مفخرة حضارية، ومفخرة عربية وخليجية، أن تجمع ثلاثة ملايين من البشر في منطقة لا تتجاوز مساحتها الكيلومترات القليلة المربعة، وتنظمهم وتقوم على رفادتهم ووفادتهم وطبابتهم وعنايتهم وسكنهم، ومنامهم وراحتهم، ثم يخرجون منها بعد ذلك سالمين، هي مسألة أقرب ما تكون إلى المعجزة التنظيمية. ولا أقصد المبالغة هنا، فالثلاثة ملايين أتوا من كل فج عميق، يتكلمون لغات مختلفة، ولهم عادات وتقاليد وألوان وأشكال وأمزجة وحتى أعراف وسنن متنوعة، وهذا التنوع والتلون والاختلاف في المشارب يجعل المهمة أصعب بكثير مما لو كان الحجاج من مشرب واحد.

غالبية هؤلاء الحجاج من خلفيات متواضعة تعليميا، فالدول الإسلامية المعاصرة عموما تعاني من نسب عالية في الأمية والجهل، ومع هذا استطاعت السلطات السعودية، أن تتعامل مع هذه الحشود الملايينية على قدم المساواة، وأن تؤمن لهم قدر استطاعتها من وسائل الراحة والأمن.

المملكة العربية السعودية تستنفر في موسم الحج ـ من ملكها إلى أصغر موظف في أجهزتها الرسمية ـ خلال موسم الحج، الجميع يعيشون حالة طوارئ رسمية، مغلفة بطبيعة عربية مضيافة، تستشعر شعورا أقرب ما يكون إلى الغريزة ـ الجهادية بضرورة القيام بكل ما في وسعهم لتسهيل وتذليل العقبات أمام الحجاج.

كنت أستعرض صورا قديمة لموسم الحج في مكة، سبقت حتى إعلان المملكة العربية السعودية على يد مؤسسها الراحل الملك عبد العزيز ـ رحمه الله، حجاج يسبحون في بحيرة من أمطار تجمعت حول البيت العتيق، أدوات للطبخ تعود إلى العصر الحجري، فوضى المكان ولخبطة السير تفوق الوصف. وقارنت بفخر واعتزاز ما حققه الإنسان بإرادة جبارة من قفزة ما كان لها أن تتحقق لو لم يكن وراءها قرار جبار لمعاندة ظروف التخلف بكل وجوهها، وإظهار الشعيرة الجماهيرية الإسلامية الأكبر بمظهر يليق بالإسلام وأهله.

تنطع صديقي ظرفا وهو يتابع آخر أخبار شعائر الحج، والجميع يتابع بإعجاب وغبطة سير العملية بكل سلام ويسر، فقال ممازحا: «تخيل لو كانت إدارة الحج في البلد الفلاني، أو بإدارة النظام العلاني!!»، «فال الله ولا فالك»، أجابه آخر مضيفا: «لرأيت الضحايا من الحجاج بالآلاف سنويا، ليخرج ناطق رسمي لتلك الدولة مبررا: السبب هم الحجيج أنفسهم، مردفا أن الطقس والجو وأخطاء الحجاج كانت عوامل ساعدت على حلول الكارثة، ويتبع التبرير الرسمي فتوى بأن ضحايا الحوادث تلك شهداء عند ربهم يرزقون، ويخصص تلفزيون الدولة برنامجا يوميا عن «فضل الشهادة أثناء موسم الحج»، وتتحول المأساة إلى فرح رسمي بشهادة الضحايا، وكأنهم «يحسدون الفقير على موت الجمعة»، ثم يسيطر هوس بدعة جديدة رسختها المآسي السنوية وفتاوى النظام العبثي بضرورة الحج من أجل الموت في بيت الله، وفي ضيافة الرحمن كي تضمن الجنة.. وهكذا».

كانت مزحة كابوسية من الأصدقاء أن يدير موسم الحج أحد أنظمتنا الفوضوية العبثية، ولكنها الرحمة والمفخرة أن يكون موسم الحج بإدارة المملكة العربية السعودية.