شخصية 2007: حواء باكستان... وآدم لبنان

TT

اعتادت وسائل الإعلام على اختيار شخص ليكون رجل العام. وجرت العادة ايضاً على اعتبار أن للعام، الشخص المذكَّر وليس المؤنث، الى ان جاءت نهايات العام 2007 تجمع ما بين المذكر والمؤنث من شخصية العام وبحيث بدا ان الرمز الأهم للعام الذي ودعناه قبل ايام كان من انتاج العالم الثالث وتحديداً من الجناح المسلم في هذا العالم. وتقاسمت الصفة بي نظير بوتو التي اغتالتها الجاهلية الجديدة وهي تناضل، كامرأة شجاعة ومستنيرة، من اجل ان يصل الرقي بالبشر في باكستان الى مرتبة التفوق النووي الذي حصلت بموجبه هذه الدولة على السلاح الرابع والمدمِّر في الوقت نفسه، الذي تحلم جارتها ايران بامتلاكه ولا تجد القبول الدولي بأحقيَّتها بعدما امكنها العثور عن طريق الجار الروسي على السبيل، وبين رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري الذي اتخذ من المواقف ما جعل شخصه اهم من برلمان كل اللبنانيين وذلك عندما لم يُتح لأعضاء البرلمان عقد جلسة برئاسته ينتخبون خلالها وبالاقتراع السري كما ينص الدستور، رئيساً جديداً للجمهورية يخلف الجنرال اميل لحود الرئيس الذي انصرف بعد ولاية عادية من ست سنوات ارادها له الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد في زمن كان لبنان شبه محكوم من نظام الأسد الأب على مدى ربع قرن، ثم ولاية نصفية ممدَّدة فَرَضَها الأسد الابن الرئيس بشَّار الذي ورث المنصب بعد رحيل والده، وكان من تداعيات التمديد أن الوجود السوري انتهى عقب اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري الذي اصبح قبل الاغتيال زعيماً بامتياز وإلى درجة المرجعية السياسية العملية للطائفة السنية في لبنان والمرجعية الفخرية النموذجية لبعض مفاصل المجتمع السوري، ثم اصبح بعد الاغتيال بالنسبة الى ابناء الطائفة من «رجال الله الصالحين» بالمنظور الروحي وزعيماً يقود من خلال ابنه النائب سعد الدين اكثرية طائفته وهو راقد تحت التراب في بقعة مجاورة لمسجد محمد الأمين في قلب الوسط التجاري للعاصمة اللبنانية بيروت.

ولقد جاء تقاسُم صفة رمز العام 2007 بين حواء الباكستانية بي نظير ذو الفقار علي بوتو وآدم اللبناني نبيه بري، يشبه تقاسُم الجائزة الادبية أو الفنية او العلمية الكبرى من نوع «نوبل» او «الاوسكار الهوليوودي» وغيرهما بين شخصين على اساس ان كلاً منهما مارس ما يستحق هذا التكريم.. مع ملاحظة ان الاستحقاق هنا كان لأن بي نظير من جهة ونبيه بري من جهة اخرى فعلا ما لم يسبق ان فعله احد. فالسيدة الباكستانية ذات الحسب والنسب اقتحمت مجتمعاً لا يتحمل رجاله ان يكونوا محكومين من امرأة حتى اذا كانت ابنة ذو الفقار علي بوتو الذي شنقه ضياء الحق فدفع هذا الجنرال حياته لاحقاً ثمن حماقة ارتكبها بشنقه ذلك الزعيم العلماني المستنير ذو الكاريزما اللافتة. وجاء الاقتحام على درجة من التسرع ونتيجة الحاح الملتفين حولها المتطلعين الى الانتفاع من السلطة في حال استعادت موقعها الرئاسي عِلْماً بأن المسألة ليست بهذه السهولة بعدما قررت المؤسسة العسكرية ان تمارس الدور المزدوج اي ان تكون مدنية في لباس عسكري وعسكرية في ممارسة مدنية. ثم انها عادت من المنفى متحدية وبمفردات من النوع الذي طالما استعمله في ممارسته للعبة السياسية الجنرال ميشال عون في لبنان، بعد استعادته من منفاه الباريسي، وبذلك لا يرتاح ولا يترك الوطن يغادر الازمة التي يعيشها منذ بضعة اشهر.

وكان الجنرال عون جديراً بأن يكون هو الرمز الذكوري لمحنة العام 2007، لولا أن «الأحقية» كانت لرئيس البرلمان اللبناني نبيه بري الذي سبق ان اعتبره البرلمانيون العرب والمسلمون قدوة، فقد أدخل على اللعبة البرلمانية امراً يعجز او يجرؤ رئيس اي برلمان عربي وأي برلمان اسلامي وأي رئيس برلمان في العوالم الثلاثة الاول والثاني والثالث من القطب الى القطب، عن اقترافه وهو عدم تمكين البرلمان الذي يترأسه من عقد جلسة ينتخب فيها الاعضاء بالاقتراع السري الرئيس الجديد للجمهورية وبذلك لا يحدث هذا الشغور الفريد من نوعه للمنصب الاول في اي بلد. ولو أن المسألة كانت معكوسة بمعنى ان نبيه بري كان مجرد نائب في البرلمان وزعيم شريحة من ابناء طائفته وكان من يترأس البرلمان ويمارس ما مارسه هو شخص آخر، لكان صوت الرجل هو الأعلى بين الاصوات المعترضة. وعندما نقول ذلك نأخذ في الاعتبار أن نبيه بري من الحاذقين عند ممارسة العمل السياسي وبالذات مع الذين من نسيجه على صعيد الجرأة امثال بي نظير التي بينها وبينه رسائل متبادَلة منذ أن كانت تترأس الحكومة، ووزير خارجية فرنسا برنار كوشنير الذي احاط في السبعينات بالمجتمع الشيعي اللبناني خير احاطة من خلال الإمام موسى الصدر.

وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن بري لخص تأثره لاغتيال بي نظير بالقول «إن جرأتها كانت زائدة وأنا حزين لاغتيالها، وقد دفعت هذه السيدة وعائلتها ضريبة كبيرة في سبيل باكستان». اما بعدما سجَّل كوشنير اعتراضات كثيرة الحدة على زيارة الرئيس الليبي معمر القذافي الى فرنسا واستحضار كوشنير واقعة تغييب الامام الصدر في ليبيا فإن بري وعلى رغم اجواء التأزم السياسي المتواصلة في لبنان بعث يوم الثلاثاء 11ـ12ـ2007 ببرقية الى كوشنير قال فيها «أشد على يديك. وأضم صوتي لصوتك الصارخ ضد زيارة الدكتاتور معمر القذافي الى فرنسا شاكراً موقفك وتذكُّرك الإمام موسى الصدر ورفيقيه المخطوفين من قِبَله بعد دعوة رسمية وُجِّهت اليه منذ نحو ثلاثين سنة. مرة اخرى نسجل موقفاً لن ننساه...». وصادف هذا الإطراء من جانب بري لكوشنير الذي طالما تمنَّى على الاول تسهيل مسعاه من اجل انهاء الازمة في لبنان من دون ان يلقى التجاوب المأمول، ان الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد الذي يدق بقوة كل ابواب اصدقاء اميركا، دول الخليج ومصر، آملاً رد الأذى الاميركي المحتَمل عن ايران، اوفد بعد اسبوعين (الاربعاء 26ـ12ـ2007) نائبه برويز داودي الى ليبيا للتحادث مع العقيد القذافي خلال زيارة استغرقت يومين وكانت الاولى على هذا المستوى منذ ربع قرن، من دون ان ندري كم استغرق الحديث في موضوع الصدر بين الزائر الايراني المرموق وصاحب القرار الليبي.

وهنا نتأمل في إطراء بري للكلام الكثير المرارة من جانب كوشنير ازاء زيارة القذافي لفرنسا وتفهُّمه لعلاقات ايران النجادية مع ليبيا القذافية. وهذا التفهم يضيف المزيد من الارجحية الى ما اشرنا اليه في شأن الدور الذي لم يمارسه بري عندما لا ييسر أمر انعقاد برلمان يترأسه وبذلك بدا شخص الرئيس اهم من المؤسسة، وعلى هذا الاساس صار من الطبيعي اعتبار ما قام به بري من الامور غير المألوفة وأهميتها انها تصدر عن قطب سياسي يحمل بين يديه مفتاح مؤسسة ليس في الدستور ما يجيز أن يحجبها رئيسها، وهو كان لن يفعل ذلك لو أنه على الحياد في الازمة وليس جزءاً من الفريق المعارض ضد الفريق الآخر.

ومرة اخرى نرى ان نبيه بري لم يأخذ بقاعدة للضرورة احكامها بمثل أخْذه بقاعدة للمسايرة اصولها على نحو برقيته الى كوشنير الملأى بالتأثر لغضب الاخير على القذافي، ولإقراره (اي بري) بخطورة الجرأة الزائدة بالنسبة الى من يتعاطى العمل السياسي القيادي على نحو ما اورده في تصريحه المليء بالأسى حول اغتيال ابنة ذو الفقار علي بوتو التي سارعت الاوساط الاسرائيلية الى تشويه موقفها من خلال الادعاء بأنها استنجدت بـ«الموساد» للمساعدة على حمايتها وأنها كانت تريد إقامة علاقات دبلوماسية مع اسرائيل». وهو لو أخذ بقاعدة للضرورة احكامها لما كان لظاهرة تأجيل انعقاد البرلمان اللبناني وبرئاسته لانتخاب رئيس جديد للجمهورية ان تتكرس وبحيث يعتاد الناس وبمرارة على التأجيل جلسة تلو جلسة. كما انه كان سيستحوذ بذلك على ان يتقاسم صفة «رجل العام» مع فلاديمير بوتين الذي اختارته مجلة «تايم» شخصية للعام 2007 لحيثيات ابرزها انه حقق استقراراً في روسيا وهو استقرار ينشده اللبنانيون ولا يحصلون عليه وكان في استطاعة رئيس برلمانهم نبيه بري ان يحققه لولا ان الرجل يفكر اكثر من بي نظير بمسألة محاذير «الجرأة الزائدة». رحمها الله ونجَّاه من مخاطر الجرأة التي يتفاداها.