هل أدرك العرب أخيراً خطورة ما يدور في لبنان؟

TT

في «غلطة شاطر» اقترفها معالي محمد جاسم الصقر، رئيس البرلمان العربي، إبان زيارته الأخيرة لبيروت اعتبر أن «اتفاق الطائف» ما عاد صالحاً ودعا إلى التفاهم على اتفاق بديل. غير أنه سرعان ما أدرك فداحة الغلطة.. فبادر مشكوراً إلى التوضيح الإنكاري.

هذه الغلطة المنطلقة من نية حسنة تصلح عنواناً لطبيعة التعاطي العربي المألوف مع أزمات لبنان المتصلة والمتطاولة منذ الاستقلال عام 1943.

هنا لا أقصد القول ان العرب لم يفهموا لبنان.. لأن في ذلك ظلماً كبيراً لهم، وبخاصة، أن اللبنانيين أنفسهم لم يفهموا بلدهم كما يجب، ولا فهموا أصول التعايش في ما بينهم، ولا هم وعوا أهميته في منطقة تعيش مذ كانت على شفير الهاوية.

فقط ما أود قوله ان الأخوة العرب غلّبوا محبتهم للبنان وتعاطفهم معه إزاء مشاكله العويصة على الحقائق المرة المحيطة بتلك المشاكل والمسببة أو المفاقمة لها، ومن ثم على المقاربة العقلانية الضرورية للتعامل الصحيح مع تلك الحقائق والمشاكل.

وكما يدرك اللبنانيون، ويدرك العرب أيضاً، دخل مصطلح «تعريب التسوية» أو «تعريب الحل» القاموس السياسي العربي مرادفاً للفشل الذريع. بل ذهب بعض ذوي النيات السيئة إلى القول أن مساعي «التعريب» إزاء كل الأزمات العربية إنما هي مبادرات سطحية.. الغاية الحقيقية منها «رفع العتب» و«نفض الأيدي» لتبرير تدخل من نوع آخر قد يكون «التدويل»، أممياً كان أو أطلسياً أو أميركياً.

وبذا وجدت حتى أطيب النيات وأخلص العواطف من يشوّهها ويتباهى بذلك.

مؤتمر وزراء الخارجية العرب الذي عقد أخيراً للنظر في الأزمة اللبنانية كان لا بد منه، ولو انه من المقلق، حقاً، السرعة الخارقة التي خرج فيها بمبادرته.. الحسنة النية. فمن المحبط لأي عربي، دون شك، أن يعقد الفرنسيون والأميركيون والإسبان والطليان وغيرهم اللقاءات، ويوفدون المبعوثين لحلحلة أزمة تبدو ظاهرياً «لبنانية داخلية».. ولا يكون للدول العربية الشقيقة دور مشابه.

غير أن الجانب الأهم والأخطر هو أن الأزمة - كما كشف خلال الأسابيع والأشهر الأخيرة عدد من كبار المسؤولين السوريين - ليست «لبنانية داخلية» بحتة.. لأن الحكم في سورية يعتبر لبنان «منتجاً إسرائيلياً»، وعليه، من حق أتباع دمشق ومناصريها داخل لبنان الانقلاب على السلطة «غير الوطنية» فيه.

في كلام السياسة هناك إذاً «تدخّل» سوري مباشر في الأزمة اللبنانية يهدف إلى إسقاط السلطة الحاكمة ولو أدى ذلك إلى نشوب حرب أهلية. وما جاء في المؤتمر الصحافي الأخير لوزير الخارجية السوري وليد المعلم للإعلان عن وقف الاتصالات مع فرنسا بشأن لبنان، ووضع المساعي الدبلوماسية العربية أمام أمر واقع، وثيقة قيّمة لأسلوب التفكير الغريب إزاء لبنان، لعل أغرب ما فيه كم بدت كلمة «تدخل» صعبة على فهم الوزير المعلم. فهو محتار كيف يطالب العرب والفرنسيون والأوروبيون سورية بالكف عن «التدخّل» وفي الوقت نفسه يطالبونها بـ«التدخّل»!!!

أليس غريباً كيف تربك كلمة بسيطة وزيراً في دولة اختيرت عاصمتها عاصمةً للثقافة العربية واللغة العربية للعام 2008؟!

وإذا كان الوزير المعلم قد ضاع في تفسير معنى كلمة «تدخّل».. فلماذا جشّمه أصحاب المبادرة العربية مشقة المساهمة بصياغة نصها؟

وهنا مني هذا التساؤل.. ألا يرى السيد الوزير أن تهريب السلاح والتحريض الفئوي والشحن الإعلامي المنظم (عبر وسائل الإعلام الرسمي المرئي والمكتوب والمسموع) وتجنيد المخبرين والمرتزقة من مختلف المستويات ودعمهم لتشكيل تنظيمات ميليشياوية ومنصات إعلامية أجيرة.. تندرج تحت أشكال «التدخل» غير المرغوب فيه. في حين أن الإحجام عن كل ما سبق ذكره والعودة عنه وتشجيع التلاقي بين مكونات الشعب اللبناني وأشتاته وعشائره هو «التدخل» المأمول.. قبل فوات الأوان؟

على أي حال، كان مفيداً أيضاً كيف شرح الوزير المعلم العلاقة الإشكالية مع واشنطن، فقال ما معناه أن «مشكلة دمشق مع البيت الأبيض لا مع الكونغرس» الذي لديه رأي مخالف لرأي الرئيس جورج بوش إزاء المنطقة.

وحسناً فعل السيد الوزير في هذا التوضيح، لأن السناتور آرلن سبكتر، أحد أقوى نجوم «اللوبي الإسرائيلي» داخل الحزب الجمهوري وداخل مجلس الشيوخ الأميركي كان قد أنهى للتو زيارته إلى دمشق. فالواضح أن لا مشكلة أبداً لدمشق مع الكونغرس.. حيث الصوت الأعلى والأقوى لـ«اللوبي الإسرائيلي» المراهن على استمرار التعايش مع الحكم السوري الحالي.

كمراقب، كنت أفترض أن وزراء الخارجية العرب، قبل اجتماعهم الخاطف، كانوا على بينة من عدة معطيات: منها أن الوضع اللبناني بعد إنذار «الأيام العشرة» الذي أطلقه أمين عام «حزب الله» دخل فعلاً منطقة الخطر. ومنها أن دمشق طالما هي مطمئنة إلى إطلاق إسرائيل يدها في لبنان ستواصل معركتها حتى عودتها إليه. ومنها أن ثمة التباساً في مستوى فهم واشنطن وتل أبيب لطبيعة علاقة دمشق بطهران واحتمالات النجاح في اللعب على تناقضاتهما.. وكما نعلم كان السيد علي لاريجاني في دمشق يوم انعقاد مؤتمر وزراء الخارجية العرب!

وهكذا في الحصيلة النهائية، كان على القرار العربي إما أن يكون شجاعاً فيواجِه (بكسر الجيم)، أو واقعياً فينكفئ ويغسل يديه من العواقب الكارثية.. ولكن بعد إتمام واجب فضح أبعاد المؤامرة كاملةً أمام العالم العربي بأسره.

فأي قرار آخر سيقدم للشارع العربي صورة خاطئة جداً ومشوهة جداً عما هو حاصل في لبنان، وما يمكن أن يحصل قريباً في عموم المنطقة.