المطلوب: التحرر من العمى الاستراتيجي.. ورؤية سياسية مبصرة

TT

هل هناك (قانون) ما يعاقب على سوء استعمال الكلمات والمصطلحات؟.. لا ندري.. وإذا كان مثل هذا القانون يتناقض ـ من النظرة الأولى ـ مع (حرية التعبير)، فإنه قد تكون له (وجاهة) ما من حيث ضرورة مواجهة السفه والفوضى والابتذال في استعمال الكلمات والمصطلحات: ابتذالا يفقدها قيمتها وجدواها، ويفسد المجال الذي استعملت فيه.

ومفردة أو مصطلح (الأولوية) يندرج في هذه الفوضى التي يتسع مداها ولا يضيق.

ومن دلائل ذلك: وضع (التكتيكي) في مكان (الاستراتيجي) أو الجزئي مكان الكلي، بينما يوجب المنهج الصحيح في استعمال مصطلح الأولوية: عكس ذلك بالضبط: تقديم الكلي على الجزئي، والاستراتيجي على التكتيكي.

وباستنقاذ هذا المصطلح من فوضى الاستعمال، يتهيأ المناخ الفكري السياسي الإعلامي لأن نقول: إن (أول) الأوليات في زيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش للمنطقة هي (رؤية سياسية استراتيجية واضحة ومتوازنة ومتكاملة) تحافظ على أمن الاقليم واستقراره ومصالحه، وتحفظ للولايات المتحدة الأمريكية مصالحها الحيوية (المجردة من الأهواء الصهيونية). وبديه: ان لهذه الرؤية المُنقذة متطلبات من نوعين:

أولاً: المتطلبات (السالبة)، ونقصد بها ـ بالتحديد الموضوعي ـ اجتناب (العمى الاستراتيجي) الذي أثبتت التجارب المرة انه لم يقد إلا إلى الأزمات والفوضى وعدم الاستقرار وتشويه الصورة وانتشار الإرهاب الخ.

ما العمى الاستراتيجي؟

هو، انعدام (الرؤية): الثاقبة، النافذة للتاريخ والواقع والمستقبل.

والحق أن هذا نوع واحد من العمى الاستراتيجي، أما النوع الآخر من العمى فهو أن توجد رؤية، ولكنها مؤسسة على تفكير خاطئ، وتحليل مختل، وتقدير لا يؤدي استصحابه ـ في الحسابات والمواقف ـ إلا إلى المزيد من الأخطاء والتخبطات والكوارث. فأي نوع من العمى الاستراتيجي موجود الآن؟.

من التعميم السهل المريح أن يقال بأن العمى المطبق هو وحده الموجود الآن. ولكن ليس من الواقعية، ولا من الوصف السديد للأحوال: نفي وجود رؤية استراتيجية.. وبهذا الإقرار يثبت النوع الثاني من العمى الاستراتيجي.. والكلام حقيق بالتمحيص والضبط، إذ كيف يقال: إن هناك رؤية استراتيجية، وان هذه الرؤية ذاتها: عمش، أو عور، أو عمى؟!. أوليست تنطوي الاستراتيجية على الحساب والتخطيط والذكاء؟.. لئن قال هنري واردبيتشر: «ليست العظمة في أن تكون قويا، بل في الاستخدام الصائب للقوة»، فإنه يمكن أن يقال: «ليست العبقرية أن تكون ذكيا، بل العبقرية: أن يتعدى ذكاؤك اللحظة الراهنة ـ دون تجاهل لها ـ ليومض ويلتمع ويبصر الأفق البعيد»: الذي يقربه ـ سراعا أو على مكث ـ: تتابع الأيام، وتلاحق السنين.. وللعلم كلمته ـ ها هنا ـ. فمن العلم ان نعلم: أن هناك مستويين رئيسين للذكاء: الذكاء المتمثل في وقدة الذهن، وسرعة الخاطر، وانثيال التفكير.. والذكاء المتمثل في التروي، والتفكير في العمق، وبعد النظر، وتقدير المآلات.. وأحسن المراتب والأحوال: أن يتكامل المستويان ويتناغمان ويتزامنان، إذ لا يغني توقد الذهن وتوهجه عن (بعد النظر).. واستنطاق التاريخ يأتي بدلائل عجيبة ومثيرة ـ لا حصر لها ـ في هذا الميدان.. يقول التاريخ البشري: إن كثيراً من الكوارث والزلازل التي ضربت المجتمعات البشرية: تسبب فيها نفر من الناس: تتقد حركتهم الذهنية بذكاء حاد، يكاد يكون جنونا من فرط توقده، ولكنهم كانوا محرومين ـ بدرجة مروعة ـ من المستوى الثاني من الذكاء وهو: البصيرة النافذة، وسداد التفكير، وقوة الرؤية، وموهبة التروي، وعبقرية بعد النظر.. مثلا (هتلر)، لم يكن غبيا، ولم يتهم بذلك، بل كان ذكيا، ومن أقوى البراهين على ذكائه المتقد النشط: أنه بنى الحزب النازي بسرعة غير معهودة في بناء أحزاب من هذا النوع، بيد ان هذا الذكاء المتوهج لم يغن عن (الرؤية الطويلة الأجل).. والدليل القاطع على ذلك: ان ذلك الذكاء نفسه: أهلك المانيا أيما هلاك، وجعل هتلر يستدبر الهدف، بمعنى أنه باء بالضياع والمهانة على حين أنه كان يسعى للوجود الدائم والمجد!.

ثانياً: النوع الثاني من متطلبات (الرؤية الاستراتيجية السياسية الواضحة المتوازنة لشؤون الإقليم وواقعه ومستقبله) هو: (متطلبات إيجابية).

لئن اقتضى النوع الأول من المتطلبات المنقذة: حماية العين والتفكير والإرادة والفعل من العمى الاستراتيجي، فإن النوع الثاني من المتطلبات: إيجابي وخلاق (ومن منظومة هذه المتطلبات تتكون الرؤية السياسية الاستراتيجية المطلوبة): كمخرج سياسي وتاريخي وحضاري من دوامة الأزمات الحادة التي تشقي المنطقة، وتهدد كل شيء بناء فيها:

1 ـ المتطلب الأول في الرؤية الواضحة الشاملة المتماسكة المنقذة ـ كأولوية لا يتقدمها أمر آخر ـ هو: اعادة تصوير حقيقة الصراع، والتعامل الجدي المسؤول مع هذه الحقيقة وهي: أن هناك احتلالا اسرائيليا لأرض عربية، وانه لا حل ـ قط ـ، ولا سلام قط ـ الا بانسحاب اسرائيل من هذه الأرض. فحقيقة الصراع إنما هي على الأرض، وليس لأن الفلسطينيين لا يحبون (أشكال) الاسرائيليين، ولا ان الاسرائيليين (لا يستلطفون) طلعة الفلسطينيين، فهذه رومانسيات لا علاقة لها بحقيقة الصراع.

2 ـ المتطلب الثاني لهذه الرؤية هو: انه ترتب على بقاء الصراع بدون حل، أي بدون انسحاب: أزمات شتى في المنطقة: سياسية وأمنية وفكرية واستراتيجية ومعيشية، ومن أبرز هذه الأزمات (أزمة الارهاب) وتداعياتها ومضاعفاتها على استقرار الانظمة والمجتمعات.. ولسنا نقول: إن الارهاب ما كان ليوجد لولا وجود الاحتلال الاسرائيلي، ذلك ان للارهاب أسبابا أخرى عديدة، ولكن من المقطوع به: ان الاحتلال الاسرائيلي. وان (الافعال) الاسرائيلية الشائنة ـ بالتالي ـ قد أمدت الارهاب بأعظم أنواع الوقود والتأجيج والالهاب.. من هنا: كما اتخذت اجراءات لمكافحة الارهاب بتجفيف منابع تمويله ـ مثلا ـ، فإنه يتوجب ـ الآن الآن وليس غدا ـ: تجفيف أوسع مصدر له وهو استمرار الاحتلال الاسرائيلي لأرض عربية، وإلا فإن الذين يتكاسلون عن انجاز هذه المهمة ـ الأمريكان وغيرهم ـ إنما يقدمون للارهاب أعظم خدمة تستديم بقاءه، وتسعّر ضرامه. في أثناء زيارة جورج بوش لفلسطين المحتلة: طرح بقوة رأي يقول: إن التوصل الى تسوية بين الفلسطينيين والاسرائيليين (يجرد) المتطرفين ـ دولا وجماعات ـ من أقوى أوراقهم وأسلحتهم.. والرأي صحيح من حيث المبدأ، بمعنى: ان سيادة الحق والعدل تنشئ مناخا سويا صحيا ينتعش فيه الاعتدال (بمفهومه الصحيح)، ويخنس فيه التشدد والتطرف، لكن هذا الرأي الصحيح لم يجد طريقه للتطبيق، بل جرى التلاعب السياسي به: بما جعله يخدم التطرف!

إنهم يعدّون حماس منظمة ارهابية، فماذا فعلوا لتقوية (الطرف المعتدل) ـ حسب تصنيفاتهم.؟.. فاجأت حماس العالم بنجاحها الملحوظ في الانتخابات التشريعية الأخيرة.. فمن الذي صوت لصالحها ـ قبل تصويت الشعب الفلسطيني لها ـ؟.. صوت لصالحها: الادارة الامريكية.. واسرائيل.. والأوربيون. فهؤلاء جميعا تعاملوا مع (السلطة الفلسطينية) أو مع قيادات فتح: بطريقة كانت لا بد ان تنتهي بتشويه صورة فتح، وإلغاء مصداقيتها، وتفشيل برنامجها لدى الشعب الفلسطيني، فعلى مدى سنوات عديدة: استخدمت اسرائيل ـ بغطاء أمريكي أوربي ـ سياسات معينة تجاه السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني ـ. ومن هذه السياسات: تجويع الفلسطينيين وحصارهم وإذلالهم عند المعابر وفي مدنهم وقراهم.. استباحة الشعب الفلسطيني بالقتل والاغتيال.. الاستمرار في التوسع في بناء المستوطنات في أرض الفلسطينيين، الى غير ذلك من السياسات الحمقاء الخرقاء.. ومما لا ريب فيه: ان هذا (التحجر السياسي) لدى هذه الاطراف الثلاثة (اسرائيل والامريكان والاوربيون) قد قدم خدمة لا نظير لها لحماس بين يدي الانتخابات وفي اثنائها!!.

وقد تكررت هذه الخدمة في اثناء الزيارة. فقد وكد الزائر على انه: أ ـ لا عودة الى حدود 67. ب ـ الصبغة اليهودية لدولة اسرائيل. ج ـ إسقاط الشرعية الدولية (تنحية الأمم المتحدة) من خلال اتهامها بالفشل.. هذه أجندة تخدم (المتطرفين)، دولا كانت أم جماعات.

3 ـ من متطلبات الرؤية المتكاملة وأولوياتها: (التبصر العقلاني النفعي) في العلاقات الثنائية. فهذه أولوية لا يجوز ان (تذوب) في العمومات والمثاليات والقوميات. فبين كل دولة في المنطقة وبين أمريكا (مصالح حيوية) يجب ان تظفر بأولوية متقدمة بمعيار المصالح المشتركة التي ينبغي ان تزدهر دوما، ولا تذبل قط.

على انه يتوجب ـ كذلك ـ أن يدخل في صميم هذا المتطلب: (التبصر في المؤثرات السلبية) على هذه الأولوية.. والمعنى المقصود ـ بوضوح ـ هو مصارحة الامريكيين بأن كثيرا من سياساتهم في المنطقة تضر بـ (المصلحة الوطنية العليا) لهذه الدولة أو تلك مثال ذلك: السياسة الأمريكية الخاطئة تجاه العراق، وفي القضية الفلسطينية.

هذا دفاع واجب عن المصالح الوطنية الخالصة التي يتعين حمايتها من المؤثرات السلبية للسياسات الأمريكية في المنطقة بوجه عام.