متى يُولدُ الألم؟

TT

في الردود على مقالة «لا يمكن ترويض الوحش بمداعبته» والتي كتبتُها بينما كان بوش، وهو الرئيس الأمريكي الذي سيذكره التاريخ العربي كما يذكر هولاكو وتيمورلنك، يتبختر في إسرائيل، فخوراً أمام أهله لإنجازاته التي تضاهي إنجازاتهم في قتل العرب واحتلال بلدانهم، أبدى البعض في هذه الردود استغرابهم من أنني سلفاً قررتُ أن هدف الزيارة الأساسي ليس التحريض على إيران وحسب، وهذه فزّاعة يُرادُ منها تسويق السلاح الأمريكي، وإنما الهدف الأساسي هو تكريس الاحتلال الإسرائيلي والأمريكي للأرض، وللإرادة العربيّة، وتكريس الاستهانة بالدمّ العربيّ. حتى أنّ أحدهم رأى أني أنافس «ميشيل الحايك» في التوقعات المسبقة! وكم كنتُ أتمنى وأنا أقرأ هذه الردود أن تُبرهِنَ نتائج زيارة بوش على أنني لستُ محقّةً أبداً. وكنتُ أدعو الله أن يصلح قلب وضمير هذا الرجل الذي برهن بأفعاله أنه لا يملك أدنى شعور من احترام العرب، أو الرأفة بأطفالهم أو معاناة أسراهم، وكنتُ أنوي لو لمستُ ذلك أن أكتب عمّا لمسته حقّاً، وفي النهاية ليست لي ضغينة شخصيّة أو أيديولوجيّة ضدّ الرجل ونظامه ومعتقداته سوى جرائم الحرب من قتل، وتعذيب، واحتلال، التي يرتكبها يوميّاً ضدّ قومي العرب في العراق وفلسطين ولبنان والصومال.

ولكن، والحال على ما هي عليه، وقد سقط 34 شهيداً فلسطينيّاً في مجزرة إسرائيلية، وفي غضون 72 ساعة من زيارته، من دون أن ينبسَ، وهو المتشدق بتعابير «الحريّة»، و«الديمقراطية»، و«حقوق الإنسان»، و«مكافحة الإرهاب»، بكلمة إدانة، أو حتى نقد لفظي فيما إسرائيل تتوعّدُ بالمزيد من جرائم الإبادة، والحصار الوحشيّ لملايين المدنيين العرب، وبعمليات قتل، وتهجير، وتجويع تهدف إلى التطهير العرقيّ. فماذا يقول كتبة مثل هذه الردود عن أهداف زيارة زعماء غربييّن أمثال بوش سوى العمل من أجل مصلحة بلدهم واقتصادهم على حساب مصالح وكرامة العرب؟ أقرؤوا كتبَهم، ومقالاتِهم، انظروا إلى أفلامهم، تصفّحوا محاضر اجتماعاتهم، استمعوا إلى الناطقين الرسميين باسمهم، بل انظروا إلى سياساتهم وأفعالهم، فماذا ترون: إنهم ينظرون إلينا جميعاً كأعداء، لا فرق بين من ينعتونه اليوم بالمتطرف، أو من يدّعون أنهم حالياً أصدقاء، فلا صديق دائم لهم، كما قالت رايس، وجلّ سعيهم هو القضاء علينا جميعاً باحتلال بلداننا الواحد تلوّ الآخر، وبشكلٍ أو بآخر، وأول خطوة يتّبعها أي عدوّ هي تفريق صفوفنا بشكل أو بآخر، وما تعبير الشموليّة إلا تبرير، كأسلحة الدمار الشامل، يُرادُ منه إسقاط كلّ الأنظمة العربيّة متى شاؤوا ووفق خطة معدّة مسبقاً لإنهاء الوجود العربي لصالح التوسع الإسرائيلي، ويتم تنفيذها على مراحل.

كلّ هذا تزامن مع إعلان إسرائيل على لسان رئيس مخابراتها «الشين بيت»، المعروفة بإدارة فرق الموت المتخصّصة بقتل أطفال وشباب العرب، أن «ألف إرهابيّ» قتلوا في غزة منذ عام 2005 (يديعوت أحرنوت 14 كانون الثاني 2008). كما تزامن هذا مع نشر تقرير في جريدة (هآرتس) عن «معاناة» معظم أطفال سيدرويت من التوتّر (هآرتس 17 كانون الثاني 2008)، بينما نُشِرَت المقالات أيضاً، وصُنِعَت الأفلام، عن «معاناة» الجنود الأمريكيين الذين قَتَلوا أطفالاً ونساءً ورجالاً أبرياء في العراق من «عدم قدرتهم على النوم» بسبب الكوابيس التي يتعرّضون لها، لأنّ أعين هؤلاء الأطفال العرب الأبرياء الذين عذّبوهم وقتلوهم ما زالت تلاحقهم في أحلامهم!! والهدف، طبعاً، هو أن نجلس نحن العرب «أهل القتيل والضحيّة» أمام الشاشة لنتعاطف مع «معاناة» القاتل الأمريكي والإسرائيلي ونبكي لمعاناة أبنائهم القتلة(!).

هم لا يريدوننا أن نتذكّر الأمّهات العرب اللواتي تعرّضن لانتهاك بيوتهن، وقتل أزواجهن، وأولادهن، أمام أعينهن من دون ذنب سوى أنهم وُلِدوا عرباً من قِبَل هؤلاء الأجانب الذين غزونا من وراء المحيطات طمعاً في ثرواتنا، والذين لا يقيمون وزناً لصديق أو احتراماً لمواثيق. ولكن الغريب ليس أن يُعبِّرَ العربيّ عن غضبه وهو يشاهد الآباء والأمّهات العرب والألم يعتصر كلّ إحساس من أحاسيسهم الإنسانيّة على أبنائهم الذين تُمزَّقُ أجسادهم الغضّة أحقاد العصور الصليبيّة، ولكنّ الغريب حقّاً هو أن ينبري البعض للدفاع عن القتلة!

هذه المرّة، حدث كلّ هذا القتل الوحشي في اليوم التالي لبدء مفاوضات الوضع النهائيّ، وعلى وقع ابتسامات بوش المبتسرة. ولكني أسألُ كلما قرأتُ مثل هذه الردود: لماذا يشعر البعض بواجب الدفاع عن بوش، أو أولمرت، أو الديمقراطية الغربيّة، التي برهنت أنها تطمح إلى أمرين اثنين لا ثالث لهما بالنسبة للعرب: نهب نفطهم، واحتلال بلدانهم، بشكل مباشر أو غير مباشر، وإطلاق يد إسرائيل في التطهير العرقيّ للعرب، وتحويلهم إلى هنود حمر في منطقة الشرق الأوسط، بينما تتحوّل إسرائيل إلى الامبراطورية الاستيطانيّة الغربيّة المتربّعة على مقادير أرض العرب وديارهم وإرادتهم لمحوّ حضارتهم وتاريخهم وسيادتهم، لتُقيم مكانها المستوطنات اليهوديّة التي يعملون على أن تكون الواقع الوحيد الذي يراه السائح خلال الخمسين سنة القادمة، بعد أن يسجنوا السكّان الأصليين في كانتونات صغيرة يعشعش فيها الفقر والمرض والعجز كالتي يعملون على إقامتها في الضفّة الغربية وغزّة، وكالتي أقاموها لعرب النقب والجليل. ولماذا يتنصّل هذا البعض من مسؤوليتهم، بالدفاع عن قومهم، ودينهم، وكرامتهم في فلسطين والعراق وأي أرضٍ يغزوها طغاة ديمقراطيّة المجازر؟

أولم يرَ هؤلاء أن بوش وحلفاءه الإسرائيليين يعتبرون كلّ أطفال فلسطين إرهابيين؟ فالذين قتلهم «الشين بيت» منذُ عام 2005 يشملون أهل هدى غالية، وهم يتنزهون على شاطئ غزّة، والطفلة إيمان حجو، والطفل محمود الكفافي، وعشرات غيرهم من أطفال العرب الذي قتلهم جنود «الدولة اليهوديّة»، وهم يدخلون مدارسهم، أو يلعبون في حاراتهم، وهو يشمل الأمهات العربيّات اللواتي قتلتهن هذه «الدولة الديمقراطية» على الحواجز، وفي الطرقات، والمنازل، والسجون. وكم يسخر العدوّ من هؤلاء الذين يتبرّعون للدفاع عن جرائمه، وعن ديمقراطيته.

أو لم يقرأ هؤلاء الأخوة من العرب، أنّ مئات الآلاف من العرب والمسلمين الأمريكيين قد تمّ تجاهلهم، وللمرّة الأولى في تاريخ الانتخابات في الولايات المتحدة، من قبل مرشحيّ الرئاسة، فلم يذهب أيّ من المرشحين للرئاسة بحملته إليهم كي لا يُتَّهم بأنه متعاطف مع «الإرهابيين»؟

إنّ كلّ من يحمل اسماً عربيّاً وينطق بلغة الضاد، يقع ضمن خانة الشبهة بأنه إرهابي، سواء وقف إلى صفّهم مندّداً بالشموليّة، أو قدّم لهم خدمات أو تسهيلات أو تنازلات أم لم يُقدّم، ولن يعفيه أو يغفر له حتى تواطؤه، إن حصل لا سمح الله، ضدّ إخوانه وبلده ودينه وشعبه. وهذا الحكم لا يحتاج إلى «ميشيل الحايك»، ليتوقّعه، فمن لا يستطيع رؤية ذلك فهو لا يرى شيئاً، وسلام على بصيرته، لأنّ الواقع والتاريخ قد اثبتا لأسلافنا وأقراننا، وسيثبته لمن يأتي بعدنا، مراراً وتكراراً، فغريزة القتل تلازم الغزاة الذين يهاجموننا منذ قرون، ليقتلوا أطفالنا، وعلماءنا، ومفكرينا، ويدمّروا ديارنا، مهما اختلفت ألوان جلدتهم. هم لم يتغيّروا: يرسلون جيوشهم ليقتلونا، وينهبونا، ثمّ يتهمونا بالإرهاب.

واني لاستغرب كيف يقف الإعلام العربيّ سدّاً محكماً يمنع ألم الشهداء العرب من الوصول إلى أحاسيس الغضب العربيّ، الذي لا أشكّ أنّه موجود في الصدور والقلوب، ولكنّه لا يجد له حالياً منفذاً. لا أجد أمام هذا الوضع أبلغ من قول العرب، لمن اعتاد أن يتغزّل بالطغاة والغزاة وديمقراطيتهم الملطّخة بدماء أطفالنا، وبصراخ المعذبين من أسرانا، وبعار التعذيب: «ما لجرحٍ بميّتٍ إيلامُ».