مأساة غزة: إسرائيل من جهة و«حماس» من جهة أخرى!

TT

لو أن خالد مشعل درس تاريخ الثورة الفلسطينية دراسة من يريد أن يستفيد من العبر والتجارب، ولو أنه توقف في محطات مسيرة حركة التحرر الوطني الفلسطيني الرئيسية الملتهبة، لما جرَّ غزة إلى هذا الوضع المؤلم الذي هي عليه الآن، فياسر عرفات الأطول منه باعاً وأكثر منه براعة في المناورات والألاعيب السياسية كان قد عاش حصاراً أبشع من هذا الحصار ثلاث مرات، فأولاً كان حصار بيروت عام 1982 الذي استمر زهاء ثلاثة أشهر، وثانياً كان حصار طرابلس في الشمال اللبناني عام 1983 الذي شاركت فيه تنظيمات فلسطينية وقوات عربية إلى جانب البحرية الإسرائيلية، وثالثاً كان حصار رام الله، الذي ساهمت «حماس» في استدراجه من خلال تحويل «انتفاضة الأقصى» الشعبية إلى مواجهة عسكرية، والذي تواصل حتى رحيل «أبو عمار».

لم تتوقف «حماس» منذ إنشائها، وتحديداً منذ عودة ياسر عرفات من المنافي البعيدة، عن السعي الدؤوب للهيمنة على الحالة الفلسطينية، ولذلك فإنها لم تتوان عن استغلال ضعف قبضة أبو عمار على الأوضاع في الضفة الغربية وغزة بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر2001 لتخلق قوة موازية للسلطة الفلسطينية ولتزرع الفوضى في «القطاع» ولتسحب البساط من تحت أقدام (أبو مازن).. وبالتالي لتقوم بانقلاب العام الماضي والذي يعد أسوأ محطة في التاريخ الفلسطيني.

في تلك الفترة الانتقالية، حيث أصاب الترهل حركة «فتح» وأدت الممارسات الإسرائيلية الأمنية والعسكرية والسياسية في عهد رئيس الوزراء السابق أرييل شارون وبعد ذلك إلى تهميش السلطة الوطنية وإضعافها، اكتشفت «حماس» لعبة صواريخ القسام فبدأت محاولات فرض نفسها على أنها القوة الرئيسية وأنها هي عنوان مركز القرار الفلسطيني من خلال استهداف بلدة «سديروت» الإسرائيلية الحدودية بهذه الصواريخ التي انتظرها الإسرائيليون على أحر من الجمر للتهرب من عملية السلام وللقول للعالم انهم لا يجدون الطرف الفلسطيني الذي يفاوضونه.

إن «حماس» قامت بانقلابها وهي مصممة على وراثة الحالة الفلسطينية كلها وبدون أي شريك اطلاقا، ولذلك فإنها حاولت أكثر من مرة الانتقال بهذا الانقلاب من غزة إلى الضفة الغربية، ولذلك أيضاً فإنها وقعت اتفاق مكة المكرمة وهي عاقدة العزم على مواصلة خطوات الاستفراد بالسلطة، ولذلك أيضاً وأيضاً فإنها بقيت ترفع راية الحوار والتصالح الوطني وهي تواصل التنكيل بـ«فتح» وأعضائها ورموزها وتحويل قطاع غزة إلى زنزانة كبيرة تحكمها بالحديد والنار. غير مهم أن يحل بأهل غزة، القطاع كله وليس المدينة وحدها، ما حلَّ بهم في الأيام الماضية وما قد يحل بهم في المستقبل.. إن المهم هو أن تفرض «حماس» نفسها على المعادلة الفلسطينية بالقوة وأن يرث خالد مشعل زعامة عرفات، وأن تصبح أماكن تواجد رئيس المكتب السياسي لحماس من دمشق إلى طهران إلى الدوحة هي عنوان القرار الفلسطيني وأن تتوقف عملية السلام التي أطلقها مؤتمر «أنابوليس» من جديد وأن تهمش السلطة الوطنية مرة أخرى وأن تسقط حكومة سلام فياض وأن يُفك الحصار المفروض على دولة «حماس» الغزية الذي كانت جرت محاولة لفكه في افتعال مسرحية حجاج بيت الله الحرام.. وبالتالي أن تضطر إسرائيل وأن يضطر العرب والعالم إلى التعامل مع طرف فلسطيني واحد هو الطرف الذي استطاع أن يفرض نفسه على المعادلة كلها بعذاب ومآسي أهل غزة على طريقة الغاية تبرر الوسيلة.

ليس صحيحاً أن هذه الصواريخ، التي هي عبارة عن «أنابيب» طائرة ومجرد ألعاب نارية من النمط المستخدم في المناسبات والأعياد، قد حققت توازن الرعب بين الفلسطينيين والإسرائيليين وفقاً لما قاله مشعل وهو يكاد يطير فرحاً في خطاب دمشقي عرمرمي حضره مسؤولون إيرانيون وسوريون ومندوبون عن حزب الله اللبناني، وليس صحيحاً أنها أرعبت الإسرائيليين على غرار ما فعلته صواريخ حسن نصر الله في حرب صيف عام 2006، والصحيح أن إيهود أولمرت كان في انتظارها ليصفي حساباته مع معارضيه داخل حكومته وخارجها وأن أهل «سديروت» بقوا يستقبلونها بالتهويل لابتزاز الحكومة الإسرائيلية وليحصلوا على تعويضات مجزية وفقاً للطرق الإسرائيلية المعروفة.

لم يستشر خالد مشعل العرب الذين يحرض عليهم الآن والذين يندد بصمتهم والذين يطالبهم بإلغاء معاهداتهم مع إسرائيل عندما بادر إلى التصعيد وإمطار «سديروت» بعشرات الصواريخ الدخانية الفاشلة، وهو باستدراج كل هذه المآسي لغزة وأهلها أراد فك الحصار عن دولته «الانفصالية» وأراد فرض نفسه على الإسرائيليين وأراد فرض أجندته الخاصة وأجندة حركته على كل الدول العربية التي تصر على أن منظمة التحرير لا تزال هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني والتي توجه كل دعمها إلى محمود عباس والسلطة الوطنية والتي لا ترى أفقاً غير أفق السلام في هذه المرحلة. ما الذي يريده خالد مشعل من العرب الذين لم يستشرهم عندما استدرج بصواريخه الكاذبة كل هذه المآسي إلى غزة طالما أن سوريا التي لا يزال الاحتلال يجثم على جزءٍ من أرضها قد أعلنت وعلى لسان وزير خارجيتها وليد المعلم في حديث لإحدى الفضائيات العربية قبل أيام أنها لن تلجأ إلى الخيار العسكري «إطلاقاً» لاستعادة ما تحتله إسرائيل من أرضها، وطالما أن مصر التي تحملت العبء العسكري الأكبر في كل الحروب العربية ـ الإسرائيلية قد اختارت خيار السلام وباتت تنخرط في عملية بناء اقتصادي يستحوذ على كل جهودها، وطالما أن الأردن الذي هو الأكثر ملاصقة لقضية فلسطين قد اختار الخيار نفسه الذي اختارته الشقيقة الكبرى، وطالما أن دول الخليج، بعد أن اختار الفلسطينيون والعرب خيار السلام وبعد أن أقرت القمم العربية الأخيرة المتلاحقة مبادرة السلام العربية، قد حولت كل جهودها نحو التنمية ثم وطالما أن دول المغرب العربي كلها باتت تنشغل بهموم غير الهموم السابقة..؟!

إن ما يريده خالد مشعل هو جرُّ بعض الدول العربية وفي مقدمتها مصر والأردن إلى ورطة جديدة وهي فرض أجندته على العرب كلهم وهذا بالتأكيد لن يحصل على الإطلاق فالعرب يدركون حقيقة هذا الابتزاز ولذلك فإن ما سيقومون به، وهم قاموا بهذا بالفعل، هو ممارسة المزيد من الضغط على إسرائيل وعلى واشنطن وعلى العالم كله لإيقاف العنف الإسرائيلي الوحشي الأهوج الذي يستهدف غزة وأهلها، وهنا فإنه لا بد من أن تفهم «حماس» أنها تلعب لعبة خطرة وأنها تقدم للإسرائيليين المبرر الذي يريدونه ليبطشوا بالشعب الفلسطيني كل هذا البطش!