وسقطت فيروز في الفخّ !

TT

يطلب من فيروز، دون أربعة ملايين مواطن لبناني أن تبقى على الحياد. «الصغير والكبير والمقمّط في السرير»، كلهم يتجادلون في السياسة، ينظّرون، يتفلسفون، ويقضمون البلد شبراً بعد شبرٍ. وإن هم أجمعوا على شيء، فهو أن فيروز فوق السياسة. وحدها هي فوق السياسة، وهم كلهم تحتها وفي نتنها، ومندسوّن في نزق لحافها. لكن كيف تحمي «فيروز» من «فيروس» السياسة الكاسح.

فيروز لم تعد تقاوم، فبمجرد أن تشدقت الأفواه تطالبها بعدم الذهاب إلى دمشق و«التبرع لأجهزة الاستخبارات السورية التي تفهم ثقافة القتل والاستبداد والقهر ولا تقدر الفن» (وليد جنبلاط) وأن من يحب لبنان الوطن لا يغني أمام سجانيه (أكرم شهيب، نائب في كتلة جنبلاط) حتى اشتعلت الماكينة الرحبانية في هجوم مضاد.

ولمن لا يعرف سلطة فيروز، نقول إنه من الصعب، إن لم يكن محالاً، تصور الماكينة العائلية الرحبانية تعمل من دون إذنها، أو عكس رغبتها. فهل انجرّت فيروز؟ أم أن السيل بلغ الزبى، عندها؟

الناطق الأهم والأقرب إلى فيروز هي ابنتها ريما، مسيّرة أعمالها، وشرطية تحركاتها. ريما التي تقاطع الصحافة بل وتبغضها قررت، هذه المرة، أن تعطي مقابلة، تقول فيها بوضوح: «نطرنا منيح، ولم تذهب فيروز عمداً (إلى دمشق) خلال كل الفترة السابقة كي لا يقال، انها تقف مع فريق ضد آخر». فيروز كانت تود الذهاب اذن، لكنها تحاشت البلبلة. أما لماذا تذهب الآن؟ فإجابة ريما واضحة كالشمس: «كان هناك وضع خاص، لكنه اليوم انتهى، ما فينا نضل نقول السوريين، السوريين. ما خلص ضهروا».

وتذهب ريما، بعيداً حين تشن حملة على أهل السلطة: «يعني هالسلطة لو تستطيع فقط أن تؤمن لفيروز مجرد تيار كهربائي، حتى تقشع تتمرن على ضو، ونحنا ما بدنا شي منهم».

تطفو صورة فيروز المواطنة على السطح. مطربة تحضّر بروفاتها الدمشقية في حلكة الظلمات، وتتأفف وتتذمر، كما باقي الملايين، من سلطة تحرمها الضوء، وتحاول أن ترميها بالخيانة، حين تقرر أن تغني في عاصمة عربية (معادية). هنا يأتي دور منصور الرحباني، الذي، لا نعرف سابقاً أنه حشر أنفه إعلامياً في أي موضوع يخص فيروز، لكن التنسيق بين الرحابنة يبدو متناغماً ومتكاملاً، هذه المرة، لذا يرد منصور بأن فيروز تذهب بـ«رسالة صداقة لا عمالة». ويستكمل منصور هجوم، ابنة أخيه ريما، على سياسيين لا يسميهم: «نحن من بنى وطناً للحق والخير والجمال، بينما أساء إليه المنظرون، فليهدأوا».

الياس الرحباني، الأخ الثالث لمنصور وعاصي يشارك في المعزوفة الهجومية: السياسة عند فيروز «سمو ورفعة وليست خراباً وتقسيماً وقلة أخلاق بالشكل الذي يظهره البعض». البعض الذي لا يذكره الأب، يسميه الابن غسان بالاسم قائلاً: «على أكرم شهيب ان لا يتدخل بفيروز.... الذين يعجزون عن إدارة البلاد لا يحق لهم انتقاد فيروز والطلب اليها عدم الذهاب الى دمشق بحجة تحميل النظام السوري مسؤولية جرائم الاغتيال في لبنان. فلينتظروا التحقيق الدولي ونتائجه قبل ان يتخذوا مثل هذه المواقف».

«خذوا أسرارهم من أفواه صغارهم»، هو مثل لبناني ينطبق على عائلة الرحباني اليوم، فما يقوله إلياس، يشرحه ابنه غسان، وما تصمت عنه فيروز تصرخ به ابنتها ريما علانية. ومن الصعب أيضاً أن نفصل ما يكتبه ابنها زياد في مقالاته عن كل هذا الذي يحدث. فقد تحول زيّاد إلى زجّال سياسي، ليرمي الطبقة الحاكمة بسهامه، ومن بينهم منتقد أمه وليد جنبلاط الذي وصفه منذ يومين بأنه «يشبه عزرائيل».

كتابات زياد المنحازة للمعارضة بقوة، سبقت المعزوفة الرحبانية، الموزعة والمنسقة، في هجومها على السلطة بسنوات طوال، لكن الوضع الجديد، يجعل من تحييده عن الأجواء، أمراً عسيراً.

لا يشبه المنزلق الذي ذهبت إليه فيروز اليوم، ما حصل عام 1992، عندما غنت وسط بيروت برعاية الراحل رفيق الحريري، وأثارت حنق المحتجين على نهجه الرأسمالي في تسيير البلاد. يومها اعتبرت فيروز أن وسط بيروت يجمع ولا يفرق، وهي اليوم تعتبر الذهاب إلى دمشق عودة إلى أيام «سوا ربينا» كما قيل.

لكن لم تعد القضية أن تغني فيروز في دمشق أو عمّان وإنما، أن تزجّ فيروز بقصد منها أو عن غير قصد، بخطاب سياسي أحمق ومبتذل، كرهه الناس، لكثرة ما علكوه. وليس مهماً إن كانت فيروز تعيش بصلح وانسجام مع أولادها: ريما التي تقول عن حسن نصر الله، «هذا الرجل مش معقول شو صادق»، بينما يسأل ابنها زياد «ما قيمة الإنسان إن ربح السنيورة وخسر نفسه؟». فهذه أمور تخص العائلة، ومشاعرها وميولها الخاصة. لكن ما قيمة أن تعمم الحوارات العقيمة نفسها، وتستنسخ، في السياسة كما في الثقافة والحب وقضايا الإنجاب والفن.

لفيروز وأولادها وعائلتها أجمعين رأيهم، ولنا منها أغنياتها الجامعة المانعة التي نحب. وان تصبح سفيرتنا إلى دمشق فهذا أجدى ألف مرة، من أن تكون سفيرتنا إلى النجوم، حيث لا يوجد هناك من نحتاج معه صلحاً أو علاقات دبلوماسية.

وكان بمقدور العائلة الرحبانية الكريمة، أن تسوق معركتها باسم فيروز وبالتنسيق معها، بطريقتها الفنية الرشيقة، متحررة من عدوى الفجاجة السياسية القميئة التي لا همّ لها سوى تهييج الصحافة، وقطع أواصر المحبة. وهذا عكس ما يدعيه الرحابنة، وسعت اليه فيروز نصف قرن ونيّف.

لا يوجد مبدع موهوب وذكي، إلا ويعرف أن قطيعته مع أي بلد عربي، هي قطع لرزقه، وتقليص لحركته، وتقييد لعنفوان عطائه. فالمدى العربي، هو المكان الذي يسبح فيه المبدعون العرب، وينتشرون وينتعشون. وفطم الرحابنة، وعلى رأسهم فيروز عن أقرب العواصم، وأحبها إليها، دمشق، هو بمثابة تخفيض لنسبة الأكسجين في فضائها (فضائهم). لذلك وبعد عشرين سنة انتظار، انتفضت فيروز، وقالت كفى! وحسب ما فهمنا فإن حفلاتها الأسبوع المقبل، ستجر حفلات غيرها في سبتمبر، وإلياس الرحباني سيلحقها بمسرحيته «الأندلس جوهرة العالم». أي أن الزحف الرحباني صوب دمشق بدأ، وهذه دلالة خير. فيا فنانو العالم العربي انتشروا، واضربوا عرض الحائط بحماقات سياسييكم.

لكن ما بالمماحكة السياسية الفجة تنتصر فيروز لمواقفها وقناعاتها التي لا ننكرها عليها، وإنما بالشعر والتلميح الذكي، والموقف الرمزي، الذي أسر، طوال نصف قرن، ذوي القلوب الضآلة.