خبزة في يمينك.. وامرأة في شمالك

TT

ما هو شعورك لو قطعت أذنك، أو جدع أنفك، أو بتر أكبر إصبع من أصابعك، أو فقئت عينك؟!

لا شك ساعتها انك لن تكون سعيداً، هذا إن لم تكن حزيناً.

عن نفسي أقول: انه لا يهمني كثيراً إن حصل لي ذلك، فلدي بدلاً من الأذن أذنان والحمد لله، وبدلاً من الأنف أنفان، وبدلاً من الإصبع الكبير عشرون إصبعاً موزعة بين اليدين والقدمين، وبدلاً من العين الواحدة ثلاثة أعين (ستاندباي)، اثنتان من الأمام وواحدة عند قحافة جمجمتي من الخلف.

إنني لا امزح، ولكنني اهذي.. وقد قلت هذا الكلام الذي (لا يوّدي ولا يجيب) فقط من غلبي ومن أجل لفت النظر، رغم انه مرّ عليّ إلى الآن سنة بالتمام والكمال لم الفت فيها نظر أي أحد ـ حتى ولا (صرصورة) ـ، في الوقت الذي تزغللت فيه عيوني على مدار الساعة من تداعي الصور والحركات في هذا العالم الممتلئ بالشغب و(السكس) والدمامات.

وأشرف لي الآن بدلاً من هذا (العك) أن أدخل رأساً في الموضوع وأقول: انه لو كان بمقدوري أن أضع بدلاً من مقالي الركيك والمعتوه هذا، صورة ملونة لرسام أعمى لكنت اليوم أسعد الناس وأحزنهم في نفس الوقت على الإطلاق.

نعم انه رسام أعمى، لا تضحكوا من كلامي، وإذا لم تصدقوني فإنني احلف لكم بالله العظيم انه أعمى. وهو بالمناسبة كان رجلاً موظفاً عازباً مكتملاً نشيطاً متطلعاً للمستقبل بروح جميلة، وفجأة وبدون مقدمات منطقية، بل وبدون أي إنذار حدث وميض ساطع داخل رأسه ـ على حد قوله ـ ولم يعد يشاهد بعدها غير الظلام الدامس، ووجد نفسه حبيساً في قفص ذلك الظلام الجائر الكئيب.

نقلوه إلى المستشفى، فقالوا له: ليس هناك أمل، فصل بطبيعة الحال من العمل، فكر في الانتحار غير انه كان أجبن من أن يقدم على ذلك، حاول أن يعبر عن نفسه بالكتابة غير أن ملكته لم تسعفه.. وتذكر أن والدته كانت لها محاولات بالرسم، وانه منذ صغره كان معجباً ومتعلقاً بها.. وهكذا بدأ يسترجع بل ويختزن ويحافظ على كل الصور التي في حياته، وبدأت أطراف أصابعه تزداد حساسية، واحضر قماش اللوحات، واحضر الألوان، وساعده البعض على الحفر عليها، لكي يفرق بين الأبيض والأسود والأحمر والأزرق والأصفر، وبدأ يرسم بشكل عشوائي معبر وأليم، كان يرسم كأي أعمى يريد أن يبصر، يكاد أن يبصر، يحتج على انه لا يستطيع أن يبصر، كان أحياناً يضحك وهو يرسم، يبكي وهو يرسم، يغني وهو يرسم، يبصق وهو يرسم.

الغريب أن النقاد قالوا عن لوحاته فيما بعد انه لو كان مبصراً لما استطاع أن يعبر ويبدع أكثر مما أبدع.. اشتريت لوحاته في البداية بعشرات النقود، لأنه أراد أن يأكل ولا يمد يده لأحد، وبعد أن كتبت عنه الصحف ولفت الأنظار، صعدت الأسعار إلى المئات، ثم إلى الألوف، ثم إلى مئات الألوف، وأصبح أغنى من صاحب الشركة التي كان يعمل فيها عندما كان مبصراً، والتي طرد منها عندما أصبح كفيفاً.

وبعد خمسة عشر عاماً وتزيد قليلاً، توفي الرسام الأعمى بالسكتة القلبية وحيداً، وإذا به قد وكل أحد المحامين وأوصى بكامل ثروته (لفاقدي البصر من المجانين) ـ تحديداً ـ.

المشكلة أنهم لم يستطيعوا تنفيذ وصيته، لأنهم كلما بحثوا ووجدوا مجنوناً أعمى، كان يرفض أن يأخذ مالاً، فكل ما يطلبه الواحد منهم، إما طعاماً أو نساءً.

والآن فقط تأكدت انه لا شيء يعادل في هذه الدنيا كلها أكثر من: خبزة في يمينك، وامرأة في شمالك. وهذا هو مبدئي الذي ارتضيته.

[email protected]