لبنان: نموذج لثقافة العناد

TT

اضاف نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني ورئيس «حركة أمل» وحامل مفتاح البرلمان كَمِثْل حامل «اختام الملكة» في لقاء لنا معه، واقعة جديدة حول «ثقافة العناد» هي بأهمية ما يُروى في شأن مجتمع العناد والمعاندين من وقائع وأقوال يرددها عامة الناس ونُخبهم على حد سواء وكل وفق نظرته وأسلوب حديثه، مثل واقعة «عنزة ولو طارت» و«الجدل البيزنطي» و«مَن اولاً: الدجاجة أم البيضة» و«قصتك حلوة يا حاج محمد». وحيث أن الاخيرة قريبة المضمون من الواقعة التي سمعناها من الرئيس بري فضلاً عن ان الواقعتين تعكسان حال «المهمة المستحيلة» التي يؤديها مشكوراً الامين العام للجامعة العربية عمرو موسى، فإنني هنا سأبدأ بالثانية تقديماً للأولى.

وخلاصة الواقعة ان شخصاً من اهل الجبل خصَّه المولى سبحانه وتعالى بعقوبة «العناد» التقى بعد سنوات بصديق قديم من اهل بيروت فبدأ هذا الاخير يروي رداً على سؤال الصديق المعاند ما جرى له طوال المدة التي افترقا فيها عن بعضهما. ولاحظ ان المعانِد لا يناديه باسمه وهو أحمد وإنما يتعمد مناداته باسم محمد. وبعد طول حديث قرر أن يبتكر قصة تأديته فريضة الحج ويكرر فيها اسمه لعل وعسى هذا الصديق يناديه باسمه الحقيقي. وبدأ يروي قائلاً: تعرف انني ابن وحيد على خمس بنات وان جدي أحمد ابتهج غاية الابتهاج عند ولادتي صبياً لأن الوالد بطبيعة الحال سيسميني باسم جدي (أحمد). وفي استمرار كان لسان حال العائلة: اهتموا بأحمد، وكيف حال أحمد، وهل أحمد على ما يرام، ومتى نال أحمد الشهادة الاولى، وهل سيتابع احمد الدراسة الثانوية، ومتى يتخرج أحمد، وأي عمل سيتولاه أحمد، وهل هو مع جده التاجر الكبير أحمد الذي يحمل اسمه ام مع الوالد ابو أحمد المزارع.

ويكمل الصديق الطيب القلب الرواية امام صديقه المعاند على النحو الآتي: تزوجتُ وكانت العائلة تسألني صباح كل يوم: كيف الحال يا أحمد. وهل ان هنالك مولوداً على الطريق يا أحمد. وكيف حال الزوجة يا أحمد. وكيف ستسمي المولود او المولودة يا أحمد. وهكذا مما يثلج الصدر من استفسارات. وبعدما اطمأن الجد الحبيب الى ان حفيده أحمد بات اباً وان الطفل سيكبر ثم يتزوج ثم يُرزق طفلاً ذكراً يسميه على اسم الوالد اي احمد (الثاني)، فإنني عزمتُ متوكلاً على الله ان اتوجه برفقة جدي ووالدي لتأدية فريضة الحج وإسداء الشكر الى رب العالمين. وبعد العودة بدأ اهل الحي وتجار السوق وكل مَنْ هو قريب لنا او على معرفة ينادونني بـ«الحاج أحمد». ثم ارتأينا تغيير اسم المحلات التجارية الخاصة بي فباتت «مؤسسة الحاج أحمد للأقمشة والاجواخ». وها انا بينكم الآن وقد اصبحتُ جَداً في زيارة اعود بعدها على وجه السرعة لأنني مشتاق لرؤية حفيدي «أحمد» الذي يحمل اسمي كما انا احمل اسم جدي «أحمد».

وبعدما انهى الحاج أحمد روايته هذه عن احواله لصديقه «المعاند» معتقداً ان هذا الصديق استوعب ولا بد مسألة ان اسمه «أحمد» وليس كما يصر على مناداته بـ «محمد» فوجئ بأن الصديق «المعاند» يقول: قصتك حلوة يا حاج محمد.

ونأتي الى الواقعة التي سمعناها من الرئيس بري في لقاء خاص معه، والتي سمعها من والده في صيغة نصيحة من جملة نصائح كان يحرص على تلقينه اياها لكي تساعده في مواجهة ظروف الحياة اياً كان موقعه.. إلاَّ اذا كان الوالد مِنَ الذين «قلبُهم دليلُهم» بمعنى انه يقرأ لولده مستقبلاً زاهراً في ميدان السياسة والزعامة.. إنما ليس إلى حد حجب برلمان اللبنانيين كل اللبنانيين عن مبناهم التشريعي وترْكهم، اذا جاز القول، في العراء من دون رئيس للبلاد بينما العواصف تكاد تجعل كل شيء يتطاير وربما يتناثر. كما ليس الى حد أن يختار الابن مَنْ ينوب عنه وعن ابناء الطائفة مَنْ ليس مِنْ نسيج اهل الحوار الذي ينفع بدل ان يضر وأهل الكلام الذي يُحنِّن بدل ان يُجنِّن.

وخلاصة الواقعة جاءت في سياق نصيحة من الوالد للابن الذي كان نجمه بدأ يأخذ طريقه الى اللمعان بعد التألق في النشاط الطلابي الاتحادي الهدف.. وإلى درجة التفكير بإنشاء اتحاد طلابي عربي يكون مثل الذي نشط من اجله لاحقاً ونعني بذلك الاتحاد البرلماني العربي. ومن اجل هذه الفكرة وكان زمنذاك قومياً عربياً بامتياز ولا يرى في المسألة المذهبية ما وجده فيها لاحقاً بالاقتناع او بالاضطرار ما دام بات وريث زعامة يقودها رجل الدين السيد موسى الصدر، توجَّه الى مصر التي كانت قلب العروبة النابض لكي يُطلق منها الفكرة التي، لدواع وذرائع وموانع، تعثرت.

كانت نصيحة الوالد: حذار يا ولدي من العنيد الغشيم. فالعنيد يمكن مع الوقت ترويضه. اما العنيد الغشيم فلا أمل يُرتجى منه ولا علاج بالسهل لما يمكن ان يتسبب به.

وعلى طريقة عبد الله ابن المقفع في «كليلة ودمنة» روى الوالد واقعة تُلخِّص حال العنيد الغشيم، أخذت حيِّزاً لها في ذاكرة الابن نبيه بري يستحضرها في وقت يعيش لبنان وكما لم يعش من قبل محنة «العنيد الغشيم»، وهم ليسوا قلة على الساحة السياسية وبكل اطياف العمل السياسي والحزبي والحركي، داخل الحدود وخارجها سياسيين مدنيين بعقلية ضباط وجنرالات بأسلوب سياسيين لاعبين غير حاذقين بنسبة قليلة ومتلاعبين «مَهَرة» بنسبة كبيرة.

خلاصة الواقعة ان فتى صغيراً تربَّى في اجواء من الدلال ودَرَج على ان ينال مطالبه من والديه بكثرة البكاء وان الأم والأب يلبيان دون تأفف مطالب ابنهما العنيد الدلوع الغشيم. وفي احد الايام راح الفتى يبكي ولما سألته الأم عن السبب قال: انه يريد أن يأكل دِبْساً (حلوى تُصنع من العنب او ثمرة الخروب). وصادف ان ليس في البيت هذا المطلوب وسألته الوالدة إن كان يستعيض عن «الدِبْس» بمربى المشمش او التين. لكنه واصل البكاء من دون ان تستطيع الأم ايجاد الحل ثم اتصلت بزوجها لتطلب منه البحث في اي مكان من القرية بيتاً او دكاناً وإحضار بعض «الدِبْس» الى فتاهما العنيد. وكان للأم ما طلبت حيث امكن العثور على بعض «الدِبْس» لكن ما ان وُضع أمام فتاهما الغنوج الغشيم العنيد حتى استأنف البكاء وبصوت اعلى الأمر الذي جعلهما يسألانه: لقد طلبت «الدِبْس» وجئناك به فلماذا مواصلة البكاء. وكان جوابه: أريد ايضاً طحينة. وبعد طول بحث امكن العثور على المطلوب، لكن فتاهما استأنف البكاء. وبسؤاله عن السبب قال إنه يريد خلط الدِبْس بالطحينة. وهذا الأمر كان بسيطاً ولا يوجب اي عناء سوى وضع الطحينة فوق الدِبْس وخلْطِهما جيداً وبذلك يأكل فتاهما ويرتاح الوالدان المبتليان بهذا الدلوع العنيد الغشيم من طلباته التعجيزية. لكن الذي حدث هو أن الابن واصل البكاء بعدما كان الخلط حدث. وبسؤاله عن سر البكاء طلب من والديه فرْز الطحينة عن الدبس! يا لهذا الطلب المستحيل.

تلك هي الواقعة التي من باب الصدف تَزامَنَ استحضارُها امامي من جانب الرئيس نبيه بري في وقت كان الامين العام للجامعة العربية عمرو موسى يشقى مع رموز الازمة اللبنانية أكثريين وأقليين من اجل ان لا يكونوا مثل «فتى الدبس والطحينة». لكنهم مع شديد الأسف كانوا اكثر عناداً منه... وكان بعضهم عنيداً وغشيماً في الوقت نفسه.