عندما يخلق الحب المعجزات

TT

الحب يا سبحان الله أنواع وأشكال، فهناك حب معنوي، وهناك حب مادي، وكذلك حب إنساني وحب حيواني، وحب عاقل وحب مجنون. فمثلاً المرحوم ياسر عرفات ظل طوال حياته النضالية يقول: إن حبه الوحيد هو (القضية)، وأنه متزوج منها، وقد ظل على صموده ذاك إلى آخر عشرة أعوام من وفاته، وبعدها تزوج مثلما يتزوج كل العالم والناس. وهناك من رجال البادية مَن يهيم حباً في ناقة معينة، ويطارحها الغرام ويقول فيها الأشعار، كما أن النساء الغربيات قد تعشق الواحدة منهن كلبها وتفضله على زوجها وعلى أجداد أجداده الذين خلّفوه. وعن نفسي أقول: إنني أعشق (مخدّتي) التي لازمتني أعواما وأعوام، والتي أنقلها معي أينما ذهبت، والتي لا أستطيع الاستغناء عنها أو تبديلها، وما أكثر ما أراحت هي رأسي المتعب، وما أكثر ما ضممتها بدوري واحتويتها.

وهناك رجل أريد أن أحكي لكم قصته باختصار، واسمه (جوزف رانكن)، كانت «كمنجة» حبه الخالد. وتلك الكمنجة صنعت عام 1739، وبعد 175 سنة ـ أي في 1914 ـ اشتراها من محل لبيع الخردوات، وكان عمره 18 سنة، ويعمل مساعداً في فرقة موسيقية، وأطلق عليها اسم «يايسي»، وصدح بها أروع الألحان التي لفتت الأنظار، وكان يقول لها دائماً: آه، يا جميلتي الصغيرة، إننا نستخلص أفضل ما في كلينا. وبعد أشهر اندلعت الحرب العالمية الأولى، وخوفاً منه عليها أودعها في خزانة، وظلّ هو متشرداً، وبعد انتهاء الحرب، عاد واستردها.. وانطلق معها يشق أمجاد الشهرة وهتافات الاستحسان. وبينما كان عائداً في إحدى الليالي من إحدى الحفلات، وأراد أن يفتح باب شقته، أفلتت «يايسي» من علبتها وتدحرجت إلى نهاية السلم، ويقول: كاد أن ينخلع قلبي، ولم اصدق ما رأيت، لقد نجت من الكسر بفعل أنها انزلقت على أوتارها، وتخدشت بعض الشيء، غير أن عزفها ما زال رائعاً كما هو.

وفي الثلاثينات من عمره، وعندما كان يقود دراجته ويتلوى بين السيارات في شارع عريض، سقطت (يايسي) من تحت ذراعه، وما هي إلاّ لحظة وعبرت فوقها شاحنة كبيرة، ونزل هو كالمجنون غير عابئ بأن السيارات قد تدهسه، وكانت دهشته أن كفرات الشاحنة عبرت بجانبها، وأخذ يقبّلها ويبكي فرحاً، وتعالت بواري السيارات وتوقف السير، وقبض عليه رجل البوليس ولكنه أطلقه عندما عرف سبب تضحيته. وفي ليلة مشؤومة سطا لصوص على منزله وسرقوا من ضمن ما سرقوا «يايسي».. وأصابه غمّ كبير، وفي هذه الأثناء اشتعلت الحرب العالمية الثانية، وهاجر إلى أمريكا للالتحاق بعمه العجوز هناك، وتوقف نهائياً عن العزف.. ويقول: بعد أن بلغت الخامسة والستين، وإذا برسالة تأتيني من صديق قديم في أوروبا لديه محل لبيع الآلات الموسيقية يطلب مني، بحكم خبرتي، أن أتقبل منه إرسالية بعض الآلات القديمة لبيعها للأمريكان الذين يعشقون (الأنتيك). وفعلاً وصلت، وعندما فتحت الصندوق وإذا بي أجد بينها «يايسي» التي قرأت منقوشاً داخلها: «يوهان يايسي، تولوز، صانع كمنجات 1739». ودبّت الحياة في (رانكن) وكأنه وُلد من جديد، ومعه الحق، فلقاء (حبيب بحبيب) بعد طول يأس يخلق المعجزات، وبدأ يعزف ونجمه يسطع، وانهالت عليه العقود والطلبات، وانهالت معها كذلك الثروة، ولم يتوقف حتى آخر سنة في حياته عام 1989، وأوصى أن تدفن معه «يايسي» في داخل تابوته، وهذا ما حصل.

لو أدري أن وصيتي سوف تقبل، لتمنيت أن توضع مخدتي الغالية تحت رأسي في قبري الوثير.

[email protected]