تيه موسى في لبنان

TT

غداً يعود عمرو موسى إلى بيروت في مهمة شبه مستحيلة. فالمعارضة باتت تنعى جهراً «المبادرة العربية التي دخلت دائرة الفشل المحتوم» إن هي تمسكت بتأليف حكومة ترضي الموالاة ولا تأخذ بعين الاعتبار «الثلث الضامن» للمعارضة.

لا مفاجأة.. فالمعارضة منذ سحبت وزراءها من الحكومة، ونصبت خيامها وسط بيروت، قبل أكثر من عام، وشلّت الحياة في قلب العاصمة ما برحت تردد أنها تريد هذا الثلث الوزاري الذي يجعلها تأمن خطر انفراد الأكثرية بالقرارات المصيرية، ويضمن لها الشراكة الحقيقية. الأكثرية تحاول أن تفلت من المطلب، بحجة أن المعارضة (ومن ورائها سوريا) تريد الإجهاز من خلاله على المحكمة الدولية، وحتى إن هي أعطيت ما تريد في الوزارة، ستطلب ما هو اكثر، لأن هدفها، في النهاية هو إبقاء الفراغ.

قد يكون هذا صحيحاً، وقد لا يكون. لقد تنازلت الأكثرية عن مرشحيها للرئاسة وعن انتخاب رئيس للجمهورية بالنصف زائداً واحداً، وقبلت بمرشح توافقي، لكن ماذا لو تقدمت خطوة إضافية أخرى، وقبلت بهذا الثلث «الضامن» او «المعطل»، كما يسميه البعض. وليكن هذا التنازل الأخير، اختباراً للنوايا، وتبرئة لساحة الأكثرية من دماء اللبنانيين التي باتت مستباحة.

السلطة خاسرة ابداً في كل الدول الديمقراطية أو ما يشبهها، حين تبدأ حركات العصيان والتمرد. والمعارضة اللبنانية، تلعب على هذا الوتر ببراعة، وبمقامرة شديدة، حين تغامر بإنزال الناس إلى الشارع، بحجة المطالب الحياتية، في بلد كل ما فيه محتقن ويتأهب للتفجر. سهل على المعارض أن يتهم الحكومة بالتقصير في أكثر الدول رخاء، فما بالك ببلد يحمل مواطنوه على كاهلهم 41 مليار دولار من الديون، ويعيشون في ظل شبكة كهرباء مهترئة، وخدمات يومية مخجلة، وحكومة تعاني الشلل.

لا تملك المعارضة برنامجاً اقتصادياً وخدماتياً بديلاً، مقنعاً، ومع ذلك يستطيع جمهورها قطع الطرق والإضراب، وإشعال الاطارات وشل الحياة. وبمقدور هؤلاء أن يذهبوا إلى ما هو أبعد وأخطر، ما دامت المعارضة ارتضت اللعب بالنار. وبمستطاع الموالاة أن تبقى على عنادها، وتصمّ آذانها، وتترك حياة الناس معلقة بين الحياة والموت أو السلم والحرب. لكن مسؤولية هكذا وضع، تحتمله الحكومات عادة، ولو كانت عاجزة وضعيفة ومستهدفة، وتسعى للسيادة والاستقلال.

بعيداً عن الروح الثأرية التي تحكم الحياة السياسية اللبنانية اليوم، ثمة اسئلة عديدة يفترض ان تجيب عنها الأكثرية، لأنها في موقع المسؤولية، من مثل: إن لم تقبل بالثلث الوزاري المعطل الذي تطلبه المعارضة، ما هي البدائل التي تقترحها لإخراج لبنان من عنق الزجاجة؟ وفي حال تم انتخاب رئيس توافقي للجمهورية، وجاءت حكومة لا ترضى عنها المعارضة، ما الذي يضمن عدم عودة الأمور إلى نقطة الصفر؟ ثم ما هي مقترحات الأكثرية العملية لحماية البلد من حرب جديدة تدق الأبواب؟ وهل تعتقد الحكومة الحالية ان البلد غير معطل الآن، كي تخشى عليه من تعطيل المعارضة في المستقبل؟

الأسئلة صعبة وبلا أجوبة. فمشكلة الأكثرية أنها تلقي بالكرة في ملعب المعارضة، وتنسى أنها مسؤولة عن حياة الناس، وإن عجزت عملياً عن تأمينها، بسبب ظروف لبنان العجائبية. في ما تستفيد المعارضة من وضعها خارج السلطة، وتستغله كما لو انها معارضة «مهيضة الجناح» على الطريقة الأميركية. وهو وضع شاذ ومراوغ، يذهب بلبنان إلى حروب صغيرة، تتنقل بين الشوارع والأزقة، مرة من أجل تعليق صورة لزعيم، ومرة أخرى بسبب ملاسنة كلامية بين حزبيين، ومرات غيرها بدعوى الغيرة على الطائفة.

لم يعد غريباً أن تسمع أحد المواطنين (الصالحين) الذين ذاقوا الأمرين في الحرب الأهلية، يقول لك: «لتبدأ الحرب يا أخي، وسنرى من سيكسر رأس الآخر!». لم يعد غريباً أيضاً أن تسمع صوت رشقات رصاص بسبب فرح أو عزاء، بعد أن غابت هذه الظاهرة القبلية البدائية لسنوات طويلة، بفضل هيبة الدولة. فالأسلحة منتشرة بكثافة، الإصبع جاهز على الزناد، والجميع يسأل: أين الدولة؟ بعد أن بدأت مؤسساتها تتساقط كأوراق الخريف.

وضع لا تنكره الأكثرية لكنها تحمل مسؤوليته لسوريا والمعارضة. لكن المواطن لا يستطيع أن يأكل ويشرب التصاريح السياسية، والاتهامات المتبادلة، حتى ولو كانت محقة، وإنما يسأل عن الحل؟ الحل الذي يفترض أن تؤمنه السلطة الحاكمة لمواطنيها. لقد تجرّع الخميني ذات يوم، كأس مريرة اعتبرها كالسم، يوم قبل بوقف الحرب التي شنها عليه صدام حسين لحماية البوابة الشرقية، ثم ها هي إيران اليوم تقلق العرب، بمشروع نووي وتبشرنا بغزو الفضاء. فالعاقل، هو من يرضى بتسوية تبقي له ما يبني عليه في المستقبل، بدل أن يراهن ويعاند، ويخسر كل شيء.

وأخيراً، ماذا لو رفضت المعارضة ـ وهذا هو المتوقع ـ أي مبادرة لا تعطيها حق تقاسم السلطة مع الموالاة؟ لا تجيب الأكثرية عن مثل هذا السؤال العلقمي، مما يترك المواطن أمام خيارين لا ثالث لهما وكلاهما مرّ: إما بقاء الحال على ما هو عليه، وهذا قبيح وقاتل، أو الدخول في حرب جديدة ـ أو على الصح استكمال الحرب القديمة ـ وهذا مدمر.

وبالتالي، فإن كان من مهمة لعمرو موسى يمكن أن تنجح في لبنان، فهي بإقناع الطرفين أن التنازلات الموجعة ستكون حتماً أقل ضرراً، من العنتريات البغيضة التي ستودي بالعناتر مجتمعين لا منفردين.

[email protected]