ليست الهند

TT

سبق الرحالة والمستكشفون دولهم الاستعمارية وعادوا ليغروا حكوماتهم بالذهاب إلى أرض الأسواق الجديدة والثروات المجهولة. وعثر البريطانيون على الهند بعد قرون من وصول الاسكندر في مغامرته المذهلة من بلاد الفلسفة والأسئلة إلى بلاد السكون والتأمل. وكان الهنود ينشرون في بلادهم حضارة الفقر والنوم عراة فوق المسامير وتحويل الألم والجوع إلى لذة، فيما جاء البريطانيون إلى بلادهم بحثا عن الثروات حتى صدقوا ذات مرحلة أن في إمكانهم ضم الهند إلى التاج، تماما كما اقتنعت فرنسا أنه في الإمكان جعل الجزائر فرنسية.

قبل منتصف القرن العشرين كانت الدول «الكبرى» كبيرة. بمستعمراتها وامتدادها عبر البحار. فإسبانيا والبرتغال كانتا محدودتين ضمن بلاد ايبيريا لكن واحدة وصلت إلى آخر أميركا اللاتينية وأخرى إلى الخليج العربي.

وبريطانيا نفسها كانت مجرد جزيرة صغيرة نسبيا يطوقها في التوسع عدوان الايرلنديين وعداء الفرنسيين. لكنها كانت تملك في الخارج شروق الشمس وغروبها، خصوصا «جوهرة التاج» الهند.

وفتشت الإمبراطورية الفرنسية عن «هند» لها، فوضعت عينها على مصر. وكان الرحالة الفرنسيون يأتون إلى البلاد فتبهرهم فيكتبون إلى قصر فرساي مشجعين على فكرة الغزو. وانتقلت الفكرة من السرية إلى النقاش العلني بعد الثورة الفرنسية. وعندما قام نابوليون بحملته كان ذلك بعد نضوج الفكرة في أذهان السياسيين على اختلاف توجهاتهم، وكانت المغريات كثيرة: أولا، مصر ليست في بعد الهند، بل هي هنا على المتوسط، وثانيا فهي مهد الثروات الجمالية التاريخية والآثار المذهلة والهرم الكبير ومنحوتات الفراعنة.

وبعد الرحالة جاء العلماء ينقبون في الرمال الذهبية عن معالم وآثار التاريخ القديم. وسوف تكون ضربة الحظ الكبرى فيما بعد، أن يعطى لمهندس حالم يدعى فردينان دو ليسبس أن يربط التاريخ الفرنسي بالتاريخ المصري من خلال الأعجوبة الجغرافية المعروفة باسم قناة السويس. وعندما تطلعت فيكتوريا ورأت أن فرنسيا شق البحر الأحمر في غفلة من بريطانيا سألت رئيس وزرائها دزرائيلي ما العمل، فقال نشتري حصة فيها. قالت لكن الخزانة فارغة الآن، قال نقترض ونسدد فيما بعد.

على أن حملة نابوليون على مصر (1) باءت بالفشل. واجهته مقاومة شعبية كبرى. وكما أضناه الثلج في روسيا هده الحّر في مصر. وضربت جنوده الأوبئة فصاروا يرمون أنفسهم في النيل طلبا للموت السريع. غير أن مصر أفادت من الحملة على نحو آخر. فقد حمل نابوليون معه مطبعتين وانشأ جريدتين، سياسية وعلمية، ورافقه علماء في الرياضيات والفلك والصيدلة والآثار والموسيقى والرسم والهندسة، كانوا نواة المجمع العلمي المصري.

(1) راجع «رؤية الرحالة الأوروبيين لمصر» د. إلهام ذهني «دار الشروق».