نحن والآخرون.. حديث ممتد ومتصل

TT

لست من الذين يهوون إعطاء الدروس للآخرين أفراداً أو شعوباً، كما أني لست ممن يضايقهم تلقي النقد ما دمت أستطيع الرد عليه بإبراز الحقائق وتوضيح ما قد يكون قد خفي على الناقد إذا كان حسن النية، أو ما يحاول إخفاءه من الحقيقة إذا كان سييء النية. ولست ممن يعتقدون أن نقائص الآخرين تبرر نقائصنا، أو أن أخطاءهم تصلح غطاء لما قد نكون ارتكبناه من أخطاء. كما أني مقتنع بضرورة مراجعة الذات وإصلاح ما يحتاج الى إصلاح.

أقول هذا اتصالاً بما وجه إلى مصر من نقد في بعض المحافل الدولية كثير منه ليس مبرراً، وجزء منه لا ينبع من حرص على مصر وشعبها أو خوفاً عليها من أخطاء ارتكبت، بل هو سلاح يستخدم في حرب ضروس توجه فيها سهام للإلهاء عن حقائق وللتغطية على جرائم. ويهمني في البداية أن أذكر أني لا أدعي أن أمورنا على أحسن ما يتمنى المرء، ولكني أدعي أن خطوات كثيرة قد اتخذت على طريق الديموقراطية وحرية الرأي والتعبير واحترام حقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه، فما زال أمامنا الكثير تنفيذاً لأجندة يؤمن ويطالب بها الشعب المصري ولا يريد في شأنها إملاء ولا يحتاج إلى دروس. ومع ذلك فمن حق الآخرين أن ينتقدوننا كما أن من حقنا أن ننتقدهم، ومن حقنا أن نرفض أية محاولات للإملاء أو لإعطاء الدروس لأننا نعرف ما نتمناه وهو أكثر بكثير مما تحقق، ونتطلع باستمرار إلى المزيد من التقدم في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية نصحح به ما أعوج، ونقوم ما يحتاج الى تقويم.

وبعد هذه المقدمة، ولعلها قد طالت ولكني حرصت على أن أكون واضحاً، فإني أود أن أشير إلى مصدرين من أكثر مصادر النقد وهما الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد رأت السفيرة الأمريكية المرشحة للقاهرة أن تنتهز فرصة مثولها أمام الكونغرس لتوجه اللوم لمصر في مجال حقوق الإنسان، مشيرة إلى حالات بالذات، صحيح أنها ذكرت أن التهديد بقطع أو تقليص المساعدات لمصر ليس مجدياً، ولكنها وعدت بالضغط على البلد الذي ستعتمد به (والمفروض أن تقيم معه علاقات من التفاهم والندية) حتى يستجيب لما تراه هي صحيحاً. والغريب أن السفيرة وغيرها عندما يتحدثون عن المعتقلين، ينسون وجود معتقل غوانتانامو ـ على أرض محتلة من كوبا ـ الذي يلقى فيه بالمشتبه فيهم دون تحقيق أو محاكمة، فيعيشون في ظروف مجافية لأبسط متطلبات الإنسانية أو مقتضيات القوانين الدولية. وعندما رأت واشنطن بعد سنوات طويلة أن تعدل من هذا الوضع فإنها اختارت بعض المعتقلين ـ الذين أبقت هويتهم مجهولة لفترات طويلة ـ لكي تقدمهم ـ ليس حتى إلى محاكم عسكرية ـ بل إلى لجان عسكرية لا يتاح فيها للمتهمين الاستعانة إلا بمحامين عسكريين. ولعل هذا لا يحتاج إلى مزيد من التعليق، ويوضح ما ندعيه عن وجود معايير مزدوجة لا يجوز لدولة تحمل لواء الديموقراطية أن تلجا إليها. ولكن للأسف فإن تلك المعايير هي التي تطبقها الولايات المتحدة في حالات كثيرة، لعل فيها موقفها مثلاً من امتلاك الأسلحة النووية، فهي في هذا الصدد تقسم الدول ـ غالباً على أساس عنصري ـ أو تمييزي ـ إلى دول عاقلة يسمح لها بامتلاك السلاح النووي، وأخرى غير عاقلة لا يسمح لها بذلك ولكنها أيضا تنقسم إلى فئات على أساس لا نعرف حقيقة كنهه وليس له علاقة بما إذا كانت تلك الدول تمتلك سلاحاً نووياً أو تتطلع الى امتلاكه أو تملك من الوسائل ما قد يتيح لها أن تحوز هذا السلاح، فالتعامل مختلف إذا تعلق بكوريا الشمالية أو الهند أو باكستان أو إيران. ومن الصعب في الحقيقة أن نجد مبرراً لهذه التفرقة، إلا أن الأمر لا يتعلق بامتلاك السلاح بقدر ما يتعلق باعتبارات أخرى يتعذر الحكم عليها موضوعياً وإن كان يمكن تصورها دون خوف من الخطأ.

موقف آخر هو مواجهة جرائم الإبادة التي تتعرض لها بعض الشعوب، وقد رأينا موقفاً طيباً من الغرب بشأن الجرائم التي ارتكبت في يوغسلافيا السابقة عند تفككها، ورأينا الإسراع بتشكيل محاكم جنائية دولية لتحاكم على جرائم ارتكبت في عدد من الدول آخرها لبنان، ومع ذلك رفضت واشنطن الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، ولا نراها تتخذ موقفاً ناقداً ولو بالنقد الخفيف لما تقوم به إسرائيل في غزة وما يعتبره خبراء القانون الدولي من جرائم الإبادة التي تستحق العقاب الرادع. فالحصار الذي تتعرض له غزة، والذي يشمل منع الغذاء والدواء والوقود والكهرباء، والذي يضع السكان في ظروف معيشية لا تتفق مع أبسط قواعد الإنسانية، بالإضافة إلى القتل المبرمج أو العشوائي، كل ذلك لا يلقى من الأحاسيس المرهفة في واشنطن وفي الغرب ما يستحقه من الشجب إذا كان خفيفاً، أو العقاب حتى إذا كان ضعيفاً، وأكثر من هذا فإن إسرائيل تعلن اعتزامها تكثيف هجماتها اليومية على غزة بل ربما إعادة غزوها. وإذا كانت تتحجج بأن حماس هي التي في السلطة في غزة، فما هو مبررها في العدوان المستمر على الضفة الغربية التي تقع تحت سيطرة السلطة الفلسطينية التي تعتبرها إسرائيل وأصدقاؤها السلطة الشرعية وأن رئيسها هو شريك المفاوضات التي تجري كل أسبوع دون أن تبدي فيها إسرائيل أية نوايا للتوصل الى تسوية. ولعل ذلك الحديث يقودني الى مقال نشره الكاتب الإسرائيلي آموس إيلون في مجلة نيويورك لعرض الكتب في عددها الصادر في 14 فبراير 2008 وتضمن معلومات قد يكون من المفيد عرض بعضها.

ـ إن الإسرائيليين عندما انسحبوا من غزة دمروا كل شيء وراءهم من الطرق إلى الآبار إلى خزانات المياه وأعمدة الكهرباء.

ـ إن الانسحاب كان في مفهوم شارون يستهدف في المقابل فرض حدود إسرائيل النهائية في الضفة الغربية من جانب واحد على أساس الحائط أو الجدار الذي تم بناؤه (والذي اقتطع أجزاء كثيرة من الأرض الفلسطينية وجعل الوجود الفلسطيني بمثابة كانتونات منفصلة) وهذه الجملة بين القوسين مني وليست منه.

ـ واقترن ذلك بمخطط لضمان استمرار الوجود الاسرائيلي في وادي الأردن وتجميع أكبر عدد من اليهود داخل الجدار (الذي أسميه الجدار الاستعماري العنصري).

ـ ونقل المقال عن دوف فايجلاس ـ الذي كان كبيراً لمساعدي شارون ـ إن المخطط كله يستهدف تأجيل (أو منع) قيام دولة فلسطينية.

وإذا كان المقال يستطرد بأن أولمرت لا يتبنى تماماً مخططات شارون، فمن الواضح من تصرفه في المفاوضات المستمرة التي يجريها مع الرئيس أبو مازن أنه لا يستهدف إلا التسويف وكسب الوقت دون إعطاء شيء غير عابئ أو لعله ـ وهو الأقرب الى التصديق ـ يستهدف في الحقيقة إضعاف الرئيس الفلسطيني كجزء من المخطط الذي يرمي إلى توسيع رقعة الخلاف الفلسطيني/ الفلسطيني الذي يؤدي استمراره ـ مهما كانت أسبابه الى تأجيل أية تسوية عادلة تحقق للشعب الفلسطيني آماله في إقامة دولته المستقلة. وإذا كان الرئيس بوش قد وعد بإقامة الدولة الفلسطينية بنهاية العام الحالي، فإن تطورات المواقف والسياسات لا توحي بإمكانية تحقيق ذلك. وفي لقاء عام مؤخراً في القاهرة شكك برجنسكي، مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي، في تحقيق ذلك الوعد وإن كان استطرد قائلاً «إن تاريخ بوش في الرئاسة يوحي بأنه يصمم على تنفيذ ما يقول به وقد يصدق هذه المرة أيضاً، ولكن ذلك يقتضي ممارسة ضغوط حقيقية». وأضيف شخصياً إلى ذلك أنه لا يبدو أن بوش مستعد للضغط على إسرائيل، وأنه بالتالي إذا أراد تحقيق ما وعد به فسوف يضغط على الجانب الفلسطيني، فتضاف ضغوطه إلى الضغوط العسكرية الإسرائيلية، محققة نتائج بعيدة عما يتمناه ويستحقه الفلسطينيون.

ومرة أخرى أقول إن الجهد العربي في توحيد الصف الفلسطيني يجب أن يكون أكثر نشاطاً وفاعلية، وإن الفلسطينيين يجب أن يكونوا أكثر قدرة على تجاوز انقساماتهم التي مهما كانت مبرراتها فإنه يجب عدم السماح لها بأن تغطي على حقيقة من هو العدو الذي يجب تركيز كل القوة بجميع أشكالها لاستخلاص الحق منه في تنسيق كامل مع عالم عربي يجب أن يكون أكثر نشاطاً وفعالية في توفير الأجواء المناسبة ـ في جميع الاتجاهات ـ لتحقيق ذلك.