المعادلة الجديدة في الساحل الأفريقي

TT

كشفت الأحداث التشادية الراهنة مجددا عن الأزمة المزمنة الخانقة التي تعصف بمنطقة الساحل الأفريقي، التي تشكل فضاء متواصلا تتشابه أوضاعه وتتشابك، وهي إحدى بؤر التوتر الرئيسية في القارة السوداء، كما ان لها تأثيرها الحاسم على منطقتي القرن الأفريقي والمغرب العربي المجاورتين لها.

ولنبادر بالتنبيه الى أن أقليم الساحل يغطي القوس الممتد من السودان الى موريتانيا، ويطلق بدقة على بلدان ثلاثة محورية هي مالي والنيجر وتشاد. ويتعلق الأمر ببلدان شاسعة جغرافيا، محدودة السكان، ذات بعد صحراوي فسيح، لا تتوفر علي أي منفذ بحري.

ومن خصوصيات هذه المنطقة التعايش بين القبائل الزنجية التي تشكل الأغلبية في النسيج السكاني والمجموعات البربرية ـ العربية التي هي أقليات فاعلة توجد اليوم في قلب الأزمات الحادة التي تعرفها المنطقة منذ بداية عقد التسعينات.

سيطرت على هذه المنطقة ممالك وامبراطوريات مزدهرة كدولة غانا وامبراطوريتي مالي والسونغاي والإمامة العمرية الفوتية والدولة الفودية.

وفي القرون الوسطى شهد الإقليم ازدهارا اقتصاديا واسعا في سياق مسالك التجارة العابرة للصحراء الرابطة بين شمال وغرب إفريقيا، التي كانت تتمحور حول تجارة الذهب والملح والعبيد. كما شهد ازدهارا ثقافيا ودينيا ملموسا تشهد له اليوم المكتبات الأهلية الزاخرة بالمخطوطات النفيسة في تومبكتو وأغاديزوكنو.

وقد اضطلعت قبائل البمبارة والهوسا والفلانو والسونيك بدور رئيس في نشر الإسلام، الى جانب القبائل العربية العريقة كالكنتيين والبراببيش التي تنتشر على نطاق واسع في مالي والنيجر، في حين تشكل الأقلية العربية خمس السكان في تشاد.

بيد أن التعايش بين هذه المجموعات لم يكن دوما سهلا، بل ان الصراع المتعدد الأوجه يتحدد على خطوط التقابل بين المجال الصحراوي القاحل والأشرطة النهرية الخصبة المحدودة، وبين الاقتصاد الرعوي المنهار بفعل عقود من الجفاف القاسي والاقتصاد الزراعي العاجز عن تأمين الحد الأدنى من الحاجات الغذائية، وبين المجموعات البدوية العربية والبربرية والقبائل الزنجية، وبين المسلمين والمسيحيين (تختص تشاد بهذه المعادلة التي لها امتداداتها في الصراع الديني في السودان).

استقلت هذه البلدان في السنة ذاتها (1960) عن فرنسا، وعرفت تجربة الحكم الواحد والأنظمة العسكرية، قبل ان تتحول للمنعرج الديمقراطي في بداية التسعينات، في خضم أزمات عاتية قلبت أنظمة الحكم القائمة، وسمحت بتنظيم انتخابات تعددية، أمنت حدا مقبولا من الاستقرار السياسي في مالي التي أصبحت احد النماذج الديمقراطية القليلة في المنطقة، في حين لا يزال البلدان الآخران يشهدان مصاعب التحول الانتقالي بحدة أفظع في تشاد.

تجدد الصراع الطارقي في مالي والنيجر، بعد مرور عدة سنوات على الاتفاقات الموقعة مع الجبهات الطارقية في البلدين، في الوقت الذي دخلت فيه تشاد مسار التأزم الدوري المتكرر الذي دخلته منذ الانقلاب العسكري الأول ضد الرئيس فرانسوا تومبلباي عام 1975 وقد كان الرجل الذي ترأس البلاد عند استقلالها حاكمها المدني الوحيد. كاد يسقط حكم الرئيس دبي على أيدى المتمردين الذي سلكوا النهج نفسه الذي أوصله للسلطة عام 1990 من البوابة السودانية، ومن قبله حسين هبري الذي ماثله في المسلك السياسي من حكم عشائري مغلق وتحكم أحادي في ثروات البلاد وإغلاق لمنافذ الحريات السياسية.

وإذا كانت منطقة الساحل الأفريقي لا تستثير في العادة اهتماما دوليا واسعا، باستثناء صراع فرنسي ـ ليبي خافت على النفوذ فيها، وتدخلا من منظمات الإغاثة الدولية في حالات المجاعة القصوى ، إلا أن عاملين رئيسيين استجدا في الآونة الأخيرة غيرا جذريا قيمتها الاستراتيجية دوليا.

أول العاملين اكتشاف مؤشرات ثروة نفطية هامة في الإقليم الساحلي، أصبحت واقعا ملموسا في تشاد التي تصدر حاليا 200 ألف برميل يوميا، في حين أعطت عمليات الحفر الجارية في صحراء مالي نتائج مشجعة، وتتميز النيجر بكونها ثالث مصدر لمعادن اليورانيوم بعد استراليا وكندا. وتشير التقارير الاستراتيجية الأمريكية الى ان غرب أفريقيا قد يتحول في المدى القريب الى منافس جدي للخليج العربي من حيث الموارد النفطية، مما عزز اهتمام القوى الدولية به.

أما العامل الثاني فهو تحول صحراء الساحل الأفريقي الى قاعدة رئيسية للإرهاب وتجارة المخدرات والسلاح والهجرة السرية، مما يفسر كونها أصبحت احدى الأجندات الرئيسة في الاستراتيجيات الأمنية لأمريكا والحلف الأطلسي.