برنارد لويس.. وعلمنة الإسلام

TT

أصدر المستشرق العجوز المعروف، برنارد لويس، أخيرا كتاباً بعنوان «أوروبا والإسلام»، هو في الأصل محاضرة ألقاها في منتدى المحافظين الجدد الأمريكيين الذين تأثر العديد منهم بأفكاره في نظرتهم لقضايا الإسلام والمسلمين، خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر(أيلول) 2001. ومع ان لويس طرقَ الموضوعَ ذاتهُ في كتب عدة سابقة، إلا ان الميزة الرئيسة في كتابه الجديد هي انغراسها المباشر في الواقع السياسي، ولو بتوظيف الخلفية التاريخية البعيدة التي هي اختصاصه الأصلي. والفكرة الأساسية التي يدافع عنها لويس هي ان العالم الإسلامي يشهد راهنا تحولا نوعيا في تاريخه لا يقل أهمية عن سقوط روما واكتشاف أمريكا. ويجمل هذا التحول الجذري في انحسار المرحلة الطويلة التي بدأت مع حملة نابليون واستمرت الى نهاية الحرب الباردة، مطلقا عليها حقبة التنافس الغربي على العالم الإسلامي والاستفادة من هذا التنافس، ولذا فان أزمة هذا الفضاء اليوم متأتية من تحدي المسؤولية المترتبة على اخذ مصيره بيده بدل التعلل بالهيمنة الخارجية. وقد انعكس هذا الرهان في ظاهرتين أساسيتين؛ هما حسب لويس: انفجار الصراعات الطائفية والمذهبية التي كانت نائمة في المرحلة السابقة (وابرز تجلياتها حاليا هو الصراع الشيعي ـ السني المشتعل في ساحات عديدة) والتجدد العنيف والراديكالي للنزعة الرسالية لفرض الدين الإسلامي بصفته عقيدة كونية تحتكر الحق والصواب، مما جسدته أدبيات «القاعدة» التي يراها لويس تعبيرا صادقا وصريحا عن الخطاب الإسلامي السائد. وهكذا تندرج الإستراتيجية الإسلامية لاختراق الغرب ومواجهته والتي تتمحور حول مرتكزين؛ هما الإرهاب من جهة، والهجرة الكثيفة التي تفضي الى تقويض الهويات الثقافية والوطنية للأمم الأوروبية نتيجة لعجز الجاليات الإسلامية عن الاندماج في النسيج القومي لأسباب عقدية وقيمية لا سبيل لتجاوزها. ويخلص لويس الى ان شرط بناء علاقة صحية وناجعة بين أوروبا والإسلام يكمن في فرض إصلاحات تنويرية وعلمانية في الثقافة الإسلامية السائدة، بدلا من الاكتفاء  بكسر الاستبداد السياسي للدولة. ليست أطروحة لويس بجديدة في ذاتها، فلقد طرحها بعد أحداث 11 سبتمبر، واستندت اليها الأوساط اليمينية المحافظة في تبرير حرب العراق الأخيرة، لكنها تحمل عنصرين مهمين في السياق الراهن الذي لم يعد خافيا فيه فشل المشروع الأمريكي في العراق وتخلي إدارة بوش عن هدف نشر الديمقراطية بالضغط والعنف عند الاقتضاء.

والعنصر الأول هو محاولة تفسير التناقضات الطائفية التي استجدت في الأعوام الأخيرة في بعض الساحات العربية، من منظور كونها نكوصا الى الوضعية الأصلية للفضاء الإسلامي قبل الحضور الأوروبي الذي غطى على الصراعات الداخلية التي طبعت التاريخ الإسلامي في مختلف مراحله. اما العامل الثاني، فهو تفسير موجة الإرهاب التي اجتاحت بعض البلدان الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا واسبانيا بأسباب دينية جوهرية، تتصل بالرؤية الإسلامية للديانات والثقافات الأخرى، بدلا من النظر اليها كأثر مجموعات متطرفة معزولة لا تمثل التيار الرئيس في الأمة الإسلامية. ويربط لويس بين العاملين من اجل الوصول الى النتيجة ذاتها التي طالما دافع عنها، وهي ان حل مشاكل وأزمات المسلمين مرهون بالخيار العلماني، الذي سيسمح لهم في آن واحد بتحقيق الأمن والانسجام داخليا وبتطبيع وضعهم داخل العالم. وما يثير الانتباه هنا هو ان لويس يبلور صياغة جديدة معدلة لاستراتيجيات اليمين الأمريكي المحافظ الذي كان يطرح الحل الديمقراطي القائم على الانتخابات الحرة والنزيهة وضمان الحريات العامة مسلكاً كافياً لمحاربة التطرف الذي يرتكز على أرضية الاستبداد والقمع. فبالنسبة اليه لا فائدة من فرض الخيار الديمقراطي في مجتمعات تحكمها الرؤية الدينية للحكم التي يراها ملازمة للإسلام، ولذا فان على المسلمين ان يخضعوا دينهم وثقافتهم للخطوات النقدية الإصلاحية التي خضعت لها المسيحية منذ القرن السادس عشر، باعتبار أنهما الديانتان الوحيدتان اللتان تقومان على نزعة الرسالة الكونية. ليس من همنا مناقشة هذه الأطروحة التي قدمت على نطاق واسع في الفترة الأخيرة في الدوائر الإستراتيجية الغربية، وانما حسبنا الإشارة الى انها تخلط بين أمرين متمايزين: هدف الإصلاح السياسي المنشود الذي لا يصطدم بأي عوائق ثقافية عقدية بل ان تعليقه على مشروع فكري عقدي بإيقاع بطيء يؤدي الى تكريس واقع الأحادية والاستبداد، وهدف الإصلاح الديني والثقافي الذي يقتضي بداهة أرضية ديمقراطية ملائمة لحرية التفكير والإبداع، ولا يمكن استباق آثاره في تجارب هي اليوم موضوع مراجعات نقدية عميقة لا يتسع المقام للوقوف عليها.