متى سيعود القادة الفلسطينيون إلى البيت العربي؟

TT

من المفيد أن نتوقف عند صرخة الاستغاثة التي أطلقها ياسر عبد ربه، عضو وفد المفاوضات الفلسطيني مع إسرائيل، والمشهور باعتداله الشديد، إلى حد الإسهام في إعداد «اتفاق جنيف» سيئ الصيت والسمعة. تهدد صرخة الاستغاثة بإعلان الاستقلال الفلسطيني من جانب واحد على غرار كوسوفو، احتجاجا على مماطلة إسرائيل في التفاوض، بينما هي تواصل الاستيطان وسلب الأرض الفلسطينية في كل مكان، وبخاصة في القدس.

وإذا كانت «كوسوفو» هي مرجعية الاقتراح الجديد، فإننا لا ندري لماذا لا يتم الاستناد إلى مرجعية فلسطينية لهذا الاقتراح. وهنا نذكر الذين يعرفون والذين لا يعرفون، أن منظمة التحرير الفلسطينية أعلنت عام 1988 في الجزائر «وثيقة الاستقلال» وإعلان قيام الدولة الفلسطينية، وتم بناء على ذلك انتخاب ياسر عرفات رئيسا لهذه الدولة. ونذكر الذين يعرفون والذين لا يعرفون، أنه بناء على هذا القرار، اعترفت العديد من الدول الصديقة بالقرار الفلسطيني الجديد، وقبلت بناء عليه أن تتحول مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية لديها إلى سفارات، وتم بناء على ذلك اختيار فاروق القدومي وزيرا لخارجية دولة فلسطين، إلى جانب صفته كرئيس للدائرة السياسية لمنظمة التحرير، بحيث يستطيع تعيين السفراء لدى الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية، وتعيين الممثلين والممثليات لدى الدول التي تعترف بمنظمة التحرير فقط.

واستنادا إلى هذا الوضع، ذهب الرئيس ياسر عرفات إلى مفاوضات كامب ديفيد 2000. واستنادا إلى هذا الوضع أعلن الرئيس عرفات بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد أنه سيسعى إلى إعلان الدولة الفلسطينية من طرف واحد. وهنا انفجر الغضب الأميركي ضد ياسر عرفات. وحين انطلق في جولة عالمية لكسب التأييد والمباركة، من أجل تحويل مسعاه إلى أمر واقع، تابعته الدبلوماسية الأميركية خطوة خطوة، وحدث سباق محموم بينه وبينها. وكانت النتيجة أن عرفات لم يستطع حشد التأييد الدولي اللازم لدعم موقفه، فعاد حزينا إلى رام الله، ليشهد اندلاع الانتفاضة الشعبية الثانية.

على ضوء هذه الوقائع، لو قال ياسر عبد ربه، إنه على السلطة الفلسطينية أن تعمل لإعلان الاستقلال من جانب واحد، على غرار ما حاوله عرفات من قبل، لأصبح لموقفه هذا نكهة فلسطينية خالصة، نكهة تحمل خاتم وتوقيع الراحل ياسر عرفات، ولغرف من التراث السياسي الفلسطيني الذي يحمل شرعية أقوى من شرعية استقلال كوسوفو.

من الضروري أن نقف هنا لنتذكر، بأنه عند غياب الرئيس عرفات، تم الاستيلاء شرعيا على تركته السياسية، تم احتلال منصب رئيس السلطة الذي كان يشغله، وتم احتلال منصب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الذي كان يشغله، ولكن الرفاق تعففوا وتجاهلوا منصب رئيس الدولة وصفته النضالية، فبقي المنصب فارغا، أو معلقا في الهواء، ولم يتقدم أحد ليشغله. وكان حريا بالذين يستندون الآن إلى تجربة كوسوفو، أن يبحثوا في هذا الأمر المعلق، لكي يستندوا في موقفهم إلى شرعية فلسطينية، وبخاصة بعد أن لجأوا إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وإلى مجلسها المركزي بالذات، ليكون مرجعيتهم، ولينوب عن المجلس التشريعي الفلسطيني المنتخب والمعطل، وليبرر صيغة الحكم الجديدة القائمة على إصدار «المراسيم الرئاسية»، وتذكر المجلس المركزي كل ما يمكن أن يدعم سلطة المراسيم، ونسي أو تجاهل كل ما هو أهم.

ولكن هذا الاقتراح «الجريء» من قبل ياسر عبد ربه، والخارج عن سياقه في الاعتدال المفرط، لم يحظ بالمباركة من الرئيس محمود عباس. أعلن عباس أنه سيواصل المفاوضات، حتى نهاية عام 2008، مؤكدا بذلك تحالفه مع الرئيس الأميركي جورج بوش، ومؤكدا بذلك التزامه بوعوده له في مؤتمر أنابوليس. وأوضح الرئيس عباس، أنه إذا لم تنجح المفاوضات «ووصلنا إلى طريق مسدود، فإننا سنعود إلى أمتنا العربية لاتخاذ القرار المناسب، وعلى أعلى المستويات».

لا نريد أن نعلق على هذه الرغبة الجامحة في مواصلة المفاوضات، التي أصبحت حسب توضيحات المتحمسين لها، «ملهاة شكسبيرية». إنما نريد أن نتوقف عند هذه الرغبة المؤجلة بـ«العودة إلى أمتنا العربية»، وهي ستكون بدون شك عودة مباركة، بعد أن أوغل القادة الفلسطينيون طويلا في السير على طريق الحل المنفرد، وبعد أن اعلن القادة الفلسطينيون أنهم يرفضون الدعوات العربية للحوار مع حركة حماس من أجل إنهاء قضية غزة، وبعد أن تجرأ القادة الفلسطينيون وأعلنوا لأول مرة في التاريخ السياسي الفلسطيني، أنهم يستقوون بالموقف الأميركي الرافض للحوار مع حماس، ضد الموقف العربي الداعي للحوار. ونسأل من جديد: لماذا هذه الرغبة المؤجلة في «العودة إلى أمتنا العربية؟» لماذا لا تكون هذه العودة الآن؟ ولماذا يتم تأجيلها حتى نهاية عام 2008؟ إنها مرة أخرى، رغبة قيادية فلسطينية، في الانضواء تحت الموقف الأميركي. وحين ينتهي أوان هذا الموقف مع انتهاء ولاية رئيسه، تكون العودة إلى العرب لاستشارتهم!

لقد كان الموقف الفلسطيني دائما، وهذا أمر طبيعي، متقدما على العرب في مطالبه منهم. وكان العرب يجتهدون ليقدموا الدعم للموقف الفلسطيني. ولكن اللافت للنظر اليوم، أن الموقف العربي متقدم على الموقف الفلسطيني. وها هو سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي يعلن أمام الاجتماع المشترك بين وزراء الخارجية العرب ووزراء خارجية أميركا اللاتينية في العاصمة الأرجنتينية، أن العرب سيراجعون خياراتهم إذا لم تتجاوب إسرائيل مع مبادرة السلام العربية. وها هو عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية يقول أمام الاجتماع نفسه إن إسرائيل ترفض يد السلام التي تمدها الدول العربية. ولو أن المسؤول الفلسطيني يحاول أن يستفيد من هذا الموقف العربي، ويقرر الذهاب إلى البيت العربي، ليقول لكل المسؤولين فيه، إن المفاوضات مع إسرائيل لا جدوى منها، وإن إسرائيل تماطل، وهي أثناء مماطلتها تواصل الاستيطان، وتواصل الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، وتواصل حملات الدهم والاعتقال والتدمير والقتل في الضفة الغربية وغزة على السواء. لو أن المسؤول الفلسطيني يفعل ذلك، لكان من الممكن أن يجد أمامه موقفا عربيا داعما، أو موقفا عربيا ضاغطا، لتغيير هذه الصورة القاتمة. أما وهو يصر على مواصلة المفاوضات حتى نهاية عام 2008، فإنه يقول للمسؤول العربي: تمهل، فلا تزال لدينا فسحة من الوقت. أما الحقيقة فهي أنه يقول للمسؤول العربي: تمهل، فما زلت متمسكا بالموقف الأميركي، ولا أستطيع أن انتقل للتمسك بموقف عربي.

إن سياسة الابتعاد عن العرب ليست سياسة حكيمة، وسياسة الطلب من العرب أن ينتظروا حتى يتم الإعلان عن الفشل التفاوضي الفلسطيني المحتم، ليست سياسة حكيمة، وسياسة الاستقواء بالموقف الأميركي ضد الموقف العربي، ليست سياسة حكيمة ...... وذلك حتى لا نقول أوصافا من نوع آخر.

إن هذا النوع من السياسات، يضع القادة والمسؤولين أمام محكمة التاريخ، وهي محكمة صبورة، ولكنها أيضا محكمة قاسية لا ترحم.