الوصاية على العقل: القوميون ثم الإسلاميون

TT

لا احسب ان هناك اية لغة في العالم يحفل قاموسها السياسي بمصطلحات العمالة والتخوين كما هو الحال مع اللغة العربية، وأتوقع ان هذه المصطلحات تأخذ بالانحسار الا في خطاب ما تبقى من دول شمولية او دول تسعى الى الشمولية. ورغم ان الاسلاميين العرب يكثرون اليوم من استخدام مصطلح العمالة الذي يشمل كل خصومهم في الغالب، فان هذا المصطلح يدين بظهوره الى القوميين العرب الذين احتكروا لزمن غير قصير صياغة الخطاب السياسي العربي ووضع مفردات قاموسه لينتهي به الحال الى ما هو عليه اليوم ، خطاب مأزوم يعيش اغترابا مزمنا عن محيطه الكوني وعجزا عن التكيف الى حد منه نزوع قلة من القوميين العرب الى الفكرة الليبرالية.

ان تكون عميلا يعني انك ببساطة تقدم مصالح دولة اخرى على مصالح وطنك، وفي الحقيقة لم اجد ان هذه الصفة تنطبق على فئة ما بقدر انطباقها على بعض القوميين التقليديين الذين احتكروا الخطاب العربي منذ الحقبة الناصرية وما تلاها من حكم البعث. هؤلاء تعاملوا مع اوطانهم كرهينة لفكرة يعتنقونها لا تختلف كثيرا عن فكرة الاسلاميين حول الامة الاسلامية، الوطن عند القوميين العرب هو مشروع مؤجل، وهم صنعة الاستعمار لابد من تجاوزه بوهم صنعوه هم ، ولانهم اسرى ازدواجية معقدة بين الوهمين، خلقوا خطابا سياسيا غارقا في اسطوريته ومستندا الى «خلاص» مفترض هم وحدهم المخولون بتحقيقه، ومن يعكر رحلتهم الطويلة نحو هذا الخلاص بمساءلة مفاهيمهم تلك هو عميل ينبغي (الخلاص) منه كي لا يضع حجرا في طريق «الوحدة» التي وللمفارقة كانت اخر نتيجة يمكن ان يحققها القوميون.

مشكلة الفكر السياسي العربي انه يجيد الهروب الى الامام، فلا يساءل ماضيه ولا يمارس نقدا ذاتيا حقيقيا، بل يعالج عجزه بإنكار دائم لهذا العجز بل وباستيلاد مزيد من الاوهام كما اصطناع مزيد من الاعداء. الوصاية التي اعلنوها على العقل العربي والتاريخ العربي والمستقبل العربي، انتجت اجيالا سياسية عاجزة عن ابداع التفكير وعن الخلق والتجديد، اصبح الانسان العربي يخشى من اي جديد بعد ان لقن لزمن غير قصير بأنه ليس بحاجة الى شيء سوى استعادة امجاد الماضي، اما كيف وبأية وسيلة وأي منطق، بل وهل كان الماضي حافلا بالأمجاد دائما كما يدعون، فتلك كلها امور خارج اطار المفكر به وليس على الناس (المكلفين بحماية الثورة) ان يزعجوا انفسهم بالتفكير بها مادام للثورة قائد او ملهم او مرشد يتولى هو التفكير نيابة عن شعبه.

لقد سقطت اجيالنا كلها في شرك التفكير بالنيابة، لم يعد المواطن العربي يسأل نفسه الاسئلة الصعبة، وعندما يسأله احد عنها فانه يحيله الى (كبير) ما يحمل الجواب، التفكير خارج اطار الايديولوجية الرسمية محذور وخطر وهدام، مساءلة الاساطير السائدة ممنوع ومضر ونوع من الخيانة، عليك ان تقبل بكل ما قاله قادة الثورة فهم يعرفون دون غيرهم ما هو الصواب وما هو الخطأ.

وبعد ذلك، هل نستغرب ان يخرج الخطاب العربي وقبله العقل العربي من ازمة مستعصية الى اخرى اكثر استعصاء، من وهم كبير الى اخر اكبر، من تزمت ايديولوجي مخيف الى اخر مرعب، هل يبدو اسلاميو اليوم مختلفين كثيرا عن قوميي الامس، نعم، انهم اكثر تشددا وتزمتا وإيغالا بتخوين الاخر، انهم الابن البار للاب غير الرحيم الذي علم اولاده ان يهتفوا صباحا باسم الوطن الموهوم وان يناموا مساء ببطون خاوية.

القوميون العرب انتزعوا بضعة قرون من تاريخ هذه المنطقة وجعلوها ثابتا ازليا بنوا عليه اسطورتهم التي تحت اسمها قضوا على خصومهم الشيوعيين (الشعوبيين) والليبراليين (العملاء) وبعض الاسلاميين (الرجعيين)، والإسلاميون تسلموا الراية بعد ان بلغ الوهم حدا لم يعد يقنع فيه حتى اشد المعتنقين له، ولكنها كانت صفقة كبيرة تولى بموجبها الاسلاميون استيلاد وهم جديد، بدلا من ان تتم مراجعة الماضي ونقده جاءت ايديولوجية اخرى تمارس وصاية جديدة وتعلن مشروعا جديدا للوطن، لكنه مشروع يؤجل الوطن مجددا ويرهنه بإرادة الزعماء الجدد ، تم استبدال كتيبات الحزب القائد وأقوال الزعيم الملهم بفتاوى بعض شيوخ الكهوف التي عالجت الفشل بوضع مزيد من القيود على العقل ومزيد من المحرمات على التفكير. ما يبدو اليوم تقاربا بين القوميين والإسلاميين يعبر عن ظاهرة هي وحدها الحقيقية وسط كل هذه العوالم الموهومة، انهم لا يحفلون بالحقيقة بقدر ما يحفلون باحتكارها، انهم لا يؤمنون بالايديولوجية بقدر ما يؤمنون بفرضها، انهم لا يبحثون عن الخلاص بقدر ما يريدون ان يكونوا اصحابه.

ليس غريبا بعد كل ذلك ان يغدو عميلا كل من لا يصادق على نتاج التحالف القومي ـ الاسلامي، وكل من يريد ان يستوقفنا لوهلة كي نتساءل عن حقيقة الاساطير التي ملأوا رؤوسنا بها منذ الصغر، والأوهام التي حولوها الى اناشيد ينشدها الاطفال عند كل صباح مدرسي جديد وكأنها مقدس لا يقبل السؤال او التعليق.

الاخطر من كل ذلك، اننا اليوم امام اجيال جديدة لا تملك خيارا سوى الرضوخ ، اجيال لم تتعلم التفكير بشكل مستقل عن ارادة القائد او الشيخ او المرجع، اجيال تفضل ان تبقى سجينة الوهم الكبير على ان تخرج نحو عالم تعجز عن ان تفهمه او تتفاهم معه. كل هذا اليأس، كل هذا الموت، كل هذا الدمار، انه صنيعة من اوقفوا ملكة التفكير عند شعوبهم وفرضوا انفسهم اوصياء يفكرون بالنيابة عن تلك الشعوب ويصنعون لها اساطيرها ومصائرها وحروبها وانتصاراتها .. ومخازيها. وعندما يصل بهم الفشل حد ان يكون كل فعل صدر منهم معاكسا لكل قول ادعوه، فإنهم يعولون على قدرتنا في اعتناق الوهم فنتولى بأنفسنا التبرير ونصطنع لهم كل الذرائع التي تبقيهم مؤهلين للوصاية كي تبقينا مؤهلين للخضوع.