اغتيال مغنية: القضية.. والفلوس

TT

حكايتان رئيسيتان من بين حكايات كثيرة شاعتا بعد مقتل عماد مغنية، الأولى ما صرح به مسؤول من جماعة حماس لجريدة «الشرق الأوسط» من أن مخابرات تابعة لدول (دول وليس دولة واحدة) أمدت إسرائيل بمعلومات تفصيلية وافية عن أعضاء حماس وحزب الله المقيمين في دمشق، وبذلك مكنت الموساد الإسرائيلي من اغتيال عماد مغنية، وفي الحكاية الثانية أن أعضاء الموساد الإسرائيلي قاموا بتصفيته ثم غادروا سوريا بطائرة هليكوبتر. وفي الحكايتين كما نرى تشير أصابع الاتهام بقوة إلى أن مرتكب الحادث هو المخابرات الإسرائيلية، وهذا أمر قابل للتصديق، بل ربما كان بديهيا، وهو بالتأكيد ما دفع السيد حسن نصر الله إلى تهديد إسرائيل بحرب مفتوحة، غير أن ما يجعل هذا الأمر عسيرا على التصديق ومجانبا للبداهة هو أن الحكايتين تفترضان أن الأمن السوري الداخلي والخارجي في حالة بيات شتوي عميق تجعله عاجزا عن رؤية أفراد المخابرات العربية الذين يتابعون بدقة تحركات أعضاء حماس وحزب الله داخل سوريا، ولا يكتفون بذلك، بل يبلغون بها المخابرات الإسرائيلية أولا بأول وهو ما مكن الموساد من قتل مغنية، الحكاية في ظاهرها تدين إسرائيل غير أنها في باطنها توجه أصابع الاتهام لدول عربية.. فمن هي؟

الواقع أن هذه الحكاية تذكرك بالمثل الشعبي الذي يقول «إذا كان اللي بيتكلم أهبل.. يبقى اللي بيستمع يبقى عاقل»، وهو نفس المثل الذي يطاردنا عندما نستمع إلى الحكاية الأخرى عن الطائرة الهليكوبتر الإسرائيلية التي تخترق الأجواء السورية ثم تهبط على الأرض (أين بالضبط) لينزل منها عدد من أفراد الموساد ليتوجهوا بعدها إلى دمشق (ماذا كانت وسيلة مواصلاتهم؟) ليقوموا بتفخيخ سيارة عماد مغنية ثم يفجروها ويقفلون عائدين إلى الهليكوبتر ليصلوا بها بسلام إلى تل أبيب. مرة أخرى لا نفترض حكاية البيات الشتوي لأجهزة الأمن السورية، بل لا بد أن نفترض أنهم جميعا كانوا في إجازة فحتى النائم نوما عميقا لا بد أن يوقظه ضجيج الهليكوبتر.

المعطيات في هذا الحادث ليست قليلة فقط بل تكاد تكون معدومة، وذلك بعد أن حرصت السلطات السورية على منع رجال الإعلام من الوصول إلى مكان الحادث، وبعد أن اكتفت بنشر صورة فوتوغرافية لسيارة مغنية المتسوبيشي التي حدث بها الانفجار، وهو طبقا للصورة انفجار محدود اقتصرت آثاره على مقعد السائق فقط والجزء المجاور له خلف عجلة القيادة ثم تصريح هادئ من مسؤول سوري كبير يقول فيه: سنقدم قريبا الأدلة التي تدل على هوية مرتكب الحادث.

الأقرب إلى العقل والمنطق أن يقول بأنهم يحققون في الحادث والبحث عن مرتكبه، فالأدلة مرحلة متزامنة مع التحقيق ذاته وليست منفصلة عنه أو سابقة عليه. هكذا تم حرمان المحللين الهواة والمحترفين من استخدام العقل أو النقل في دراسة الحادث فلا يبقى أمامهم إلا الاستعانة بالخيال، والخيال ليس هو الفنتازيا أو الهلوسة، بل هو درجة عليا من إدراك الواقع، ومع ذلك فأنا أحذر القارئ في كل الأحوال من أن يأخذ ما أقول قضية مسلما بها، فلا يقين في مثل هذه الأحوال، وأنصحه بأن يتعامل مع ما سأورده الآن بوصفه مجرد تصورات درامية أحاول بها استعادة تفاصيل الواقعة كما يفعل المحققون عند إعادة (تمثيل) الجريمة.

المكان: المركز الثقافي الإيراني في دمشق، لقطات عامة للمكان والشوارع المحيطة به، الوقت: ليل خارجي.

المشهد (1) الكاميرا تستعرض المركز وأفراد الحراسة الذين اتخذوا أماكنهم أمام المركز وحوله والشوارع المحيطة به، والمناسبة هي احتفال السفير الإيراني الجديد أحمد موسوي، بالذكرى التاسعة والعشرين للثورة الإيرانية، الحراسة مكثفة وزائدة عن المعتاد وهو ما يحدث في مثل هذا النوع من المناسبات في كل عواصم العالم وخاصة عندما يكون معظم المدعوين مطلوب رأسه من دولة أخرى.. عدد كبير من رجال التنظيمات الثورية يدخلون، وجوه معروفة وغير معروفة..( قطع)

المشهد (2) شوارع دمشق، شارع قريب من المركز الثقافي الإيراني، سيارة متسوبيشي تشق طريقها وخلفها وربما أمامها أيضا سيارة أخرى بها عدد من رجال الحراسة، الهدف يقود السيارة بنفسه وبجواره حارس مرافق.

المشهد (3) أمام بوابة المركز تتوقف سيارة الهدف وينزل منها ويدخل، الكل يحييه بحرارة، في نفس اللحظة المرافق ينزل من مكانه ثم يركب خلف مقعد القيادة ويقود السيارة.. الكاميرا تتابع السيارة التي تتوقف في مكان قريب، من المستحيل بالطبع أن يركنها في شارع جانبي، وحتى لو فعل ذلك فالأوامر الصادرة إليه طبقا لأبسط القواعد الأمنية، هي ألا تغيب السيارة عن عينيه، بالتأكيد السائق المرافق يعرف أنه لا يقود سيارة وكيل وزارة التموين، بل عماد مغنية وهو من هو، فهل نزل السائق من السيارة بعد أن ركنها ثم تركها في عهدة أحد آخر ثم عاد ليجلس مع زملائه بجوار المركز الثقافي؟ هذا الأمر مستحيل عندما يكون الإنسان مكلفا بالعمل عند زعيم ثوري مطلوب من أعتى أجهزة المخابرات العالمية، لذلك سأفترض أن السائق ركن السيارة بجوار المركز ولم يغادرها.

المشهد (4) الهدف يتبادل مع الضيوف أحاديث ودية، الكاميرا تتنقل بين الموجودين لتنقل حوارات جانبية.. يبدو أن الجماعة يعانون من نقص في السيولة هذه الأيام.. لقد أرسلوا لي نصف المبلغ الذي كانوا يرسلونه لي شهريا، أنا كلمتهم خمس مرات.. فيه عملية متعطلة على نص مليون دولار، ومع ذلك بعثوا لي خمسة آلاف فقط .. لست أدرى كيف نزيل إسرائيل بهذه الإمكانيات الهزيلة.. أصبر عليهم، هم يوزعون البنزين الآن على الناس بالحصص.. الشعب هناك يعاني.. لا تنسى ذلك.. آه ، هذا ما يفسر أن الدولارات لم تعد تأتي بمعدلاتها التي تعودنا عليها.. هل تعتقد أننا يجب أن نبلغ السفير.. ليس الليلة، ليس الليلة.. عيب. (قطع)

المشهد (5) مكان وقوف سيارة الهدف، شخص يقترب من السيارة، يفتح الباب بمفتاح ريموت، يخلع مسند الرأس في مقعد السائق، ثم يقوم بتركيب مسند آخر طبق الأصل للمسند المخلوع، يغلق السيارة، العملية كلها تستغرق عشر ثوان فقط.. أين كان السائق، أين كانت الحراسة الموجودة في المكان؟ الله أعلم..

المشهد (6) الهدف يخرج من المركز الثقافي في تمام الساعة العاشرة وخمس وثلاثين دقيقة، فتأتي له سيارته يقودها المرافق، المرافق يقفز في خفة نازلا من السيارة فاتحا الباب في احترام للهدف الذي يركب خلف عجلة القيادة، المرافق يغلق الباب ثم يدور حول السيارة ليركب في المقعد المجاور.. تنطلق السيارة (قطع)

المشهد (6) غرفة مظلمة، شخص لا نتبين ملامحه يطل من نافذة، من وجهة نظره نرى سيارة الهدف وهي تتحرك.. السيارة الآن بعيدة تماما عن المركز الثقافي ورجال الخدمة المتناثرين حوله، الشخص يضغط على ريموت كونترول فينفجر مسند الرأس مفجرا الهدف وجزء من السيارة، الشخص يتنهد في ارتياح ويمد يده ويأخذ قطعة بقلاوة من طبق صغير أمامه، يرتشف رشفة من كوب شاي، يشعل سيجارة.

عدد كبير من القراء لن يوافقوا على هذا السيناريو، سيتساءلون ومعهم حق.. من هو ذلك الشخص الذي غيّر مسند الرأس؟ كيف لم يره أحد؟ كيف لم يره أحد من رجال الأمن المحيطين بالمكان..؟ هل تصادف أنهم جميعا في تلك الثواني العشر كانوا ينظرون في الاتجاه الآخر.. ولماذا.. ماذا استرعى انتباههم جميعا؟

ومن هو ذلك الشخص الآخر في الغرفة المظلمة الذي يأكل البقلاوة ويشرب الشاي.. من هو؟

لا أحد قادر على تقديم إجابات صحيحة عن هذه الأسئلة سوى المحقق الجنائي، وبالمناسبة هذه الواقعة تشكل أبسط أنواع البحث الجنائي، فعلى الأقل من المؤكد أن تفخيخ السيارة حدث في موقع الحادث نفسه وفي وقت محدد وهو الوقت بين دخول الهدف إلى المركز الثقافي وخروجه منه، من المستحيل أن يكون قد حدث قبل ذلك، أو في مكان آخر وهو ما يقلل دائرة الاشتباه إلى حدها الأدنى.

العملية احترافية من الطراز الأول، وتدل على مهارة عالية، فقد حرص المخطط لها على أن يكون التفجير تحت السيطرة بحيث لا يقتل أحدا سوى الهدف، وهو ما لا يحرص عليه المفخخون في عواصم أخرى، ولكن لماذا اغتيال عماد مغنية؟

لا أحد إلى الأبد سيعرف إجابة هذا السؤال الشديد التعقيد، غير أن جزءا من الإجابة ربما يكون أن أحدا في دمشق لم يعد في حاجة إليه، وربما تكون الإجابة هي أن الفاعل كان في حاجة إلى الخمسة والعشرين مليون دولار التي عرضتها أمريكا في الهدف، بل في مقابل معلومات فقط عن مكانه، هؤلاء الذين يقتلون الناس بقلب بارد من أجل القضية العربية أو أي قضية أخرى، تمر عليهم لحظات يكونون فيها في حاجة لخمسة وعشرين مليون دولار، أو أقل، في تلك اللحظات يستولى عليهم إحساس قوي بأن اغتيال شخص لم يعد أحد في حاجة إليه، أمر داخل ضمن نطاق الدفاع عن العروبة والقضية العربية، ومن المعروف عن هؤلاء الناس أنهم يتوحدون مع قضيتهم إلى الدرجة التي يصبحون فيها هم وهي شيئا واحدا، هم في حاجة إلى الفلوس والقضية العربية في حاجة إليهم، هكذا تتوحد القضية بالفلوس فيصبح تفجير الناس أمرا سهلا للغاية، ستراه أنت صعبا لأنك لم تفجر أحدا من قبل، ولكنك عندما تمارس ذلك بنجاح ستكتشف أن إضافة اسم لقائمة الاغتيالات، مجرد عمل روتيني، فقط ـ إرضاءً لضميرك ـ احرص على أن تكون العملية نظيفة فلا يموت أحد آخر في الانفجار.