العرب.. ووهم الديموقراطية!

TT

هل الحل يكمن في أن يكون للبنان رئيس حتى (تعود الديموقراطية)؟ سأسير ضد التيار، وأقول إن هذا ليس حلا، ولي في ذلك حجج قوية. هناك انطباع عام بأن لبنان كان بلدا ديموقراطيا ثم تحول إلى غير ذلك نتيجة لتدخلات إقليمية من إيران وسورية، هذا رأي. كما أن هناك رأيا يرى أن الحل يكون بمنح «حزب الله» حقه في الحكم بما يتماشى مع تعداد السكان الشيعة في لبنان. وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك ويقول إن مشكلة «حزب الله» وشيعة لبنان هي جزء من مشكلة أكبر، وهي السؤال الشيعي في المنطقة بأكملها، والذي لا بد أن يناقش حتى نصل لحل شامل يوصلنا إلى معادلة الاستقرار في المنطقة، بمعنى إدماج الشيعة في الحياة السياسية والبرلمانية في بلدانهم كما هو الحال في لبنان والكويت.

الرؤيتان في نظري ينقصهما الصواب. ولأبدأ بالثانية أي السؤال الشيعي حتى تتضح الصورة الأكبر أولا، وذلك لأن حديثا كهذا يأخذنا من الجانب الضيق للمسألة إلى البعد الاستراتيجي والذي له تبعات ودلالات على الاستقرار وبعض الطروحات الخاصة بنشر الديموقراطية في المجتمعات العربية، وكذلك تديين الصراعات الدولية.

بداية، منطقتنا تمر بمرحلة ما يمكن تسميته بـ«تديين» السياسة المحلية. أي أن كل ما هو أمر دنيوي عام أخذ صبغة دينية هذه الأيام لتضفى عليه قداسة، وليست هناك مشكلة في ذلك. ولكن تديين السياسة الداخلية لأية دولة لا بد أن ينعكس على سلوك قادتها في السياسة الخارجية، ولعل إيران والسودان هما نموذجان واضحان عن الدول التي «دينّت» المشاكل الداخلية، ثم بعدها «دينّت» السياسة الخارجية، وليست هناك مشكلة في ذلك أيضا.

إذن ما هي المشكلة في «تديين» السياسة المحلية ومن ثم «تديين» السياسة الخارجية؟

المشكلة هي أن النظر إلى العالم من منظور ديني في سياسات الدول يجعل العالم يتعاطى معنا بنفس الطريقة. تعاطي إيران مع قضية سلمان رشدي كان مثالا واضحا، وكذلك تعاطي حكومة السودان مع موضوع الرسومات المسيئة للرسول الكريم مثال آخر. فسلمان رشدي، ربما لم يكن الغرب ليعرف به أو يطلع على كتابه، لولا فتوى تكفيره وإهدار دمه. وكذلك تلك الرسوم التي نشرتها صحيفة في الدنمارك، ربما لم يكن أحد ليتوقف عندها لولا الضجة الغاضبة التي أثيرت حولها، فانتشر الأمر من الدنمارك إلى أوروبا برمتها في نوع من العناد. وبدلا من الحديث عن علاقات دول، بدأنا الحديث عن علاقات ديانات وكتل حضارية. «تديين» القضايا الداخلية أدى إلى تديين القضايا الخارجية وتديين الصراعات وكذلك تديين الدبلوماسية. ولكن ما علاقة ذلك بلبنان وسؤال الشيعة؟

إذا نظرنا إلى الحالة الشيعية في المنطقة، حيث يسود اعتقاد بأن الشيعة في المنطقة العربية يتجه ولاؤهم لإيران أكثر من ولائهم لدولهم. ولو افترضنا أن إيران قد نجحت في اجتذاب الشيعة العرب مستغلة شعور هؤلاء (الشيعة العرب) بأنهم مغيبون عن العملية السياسية في بلدانهم، وأنهم نتيجة لهذا الإقصاء يشعرون بأنهم مواطنون درجة ثانية. لو سلمنا بهذا الافتراض، فكيف نفسر السلوك السياسي للشيعة في الكويت، حيث لهم تمثيل برلماني حقيقي، والسلوك السياسي للشيعة في البحرين التي يشكلون الغالبية السكانية فيها، ولهم ممثلوهم وأحزابهم في البرلمان والفاعلة في الحياة السياسية للبحرين؟ التفسير الوحيد أن الشيعة العرب هم مثل السنة العرب مثل الدروز العرب مثل المسيحيين العرب، يتصرفون كمجموعات Blocks لا كأفراد، طوائف وعشائر لا مواطنين. نحن مجتمعات طائفية بتركيبتها والتمثيل الطائفي في البرلمانات أو الوزارات يبدو شيئا جميلا على السطح فقط. المواطنة كإطار قانوني ينظم حياة المجتمع والأفراد ليست من قاموسنا السياسي، الأساس عندنا هو الهوية، طائفة وعشيرة وقوم.

رأينا ما حدث في الكويت بعد اغتيال عماد مغنية، القائد الكبير في الجناح العسكري لـ«حزب الله».. النواب الشيعة في البرلمان الكويتي، لم يتصرفوا كأفراد يمثلون ناخبين وإنما تصرفوا كعنصريين من مجموعة طائفية، بغض النظر عن الجدل حول مغنية وكونه شهيدا أو إرهابيا.

كذلك النواب الشيعة في البرلمان البحريني، يمارسون السلوك نفسه، فبدلا من الحديث عن المصلحة الوطنية للبحرين، كان جل خطاب قادة الشيعة في البرلمان منكبا على القضايا الطائفية، ولذا رأينا التبادل في الرسائل بين الملك وولي عهده في البحرين حول قدرة البرلمان وبعض الوزراء على التعامل مع القضايا الاستراتيجية البحرينية بشكل عاقل وراشد، لذا نقل ملف الاقتصاد البحريني من البرلمان والوزارات إلى هيئة اقتصادية عليا تابعة لولي العهد.

الديمقراطية لا تصلح في شعوب يتصرف أفرادها ضمن كتل طائفية، وتجمعات عشائرية وقبلية. حالة لبنان وصلت الى درجة كبيرة من التخلف طغت فيها المصالح الطائفية على المصالح الوطنية، اللبنانيون لم يعودوا أفرادا وإنما أرقام في مجموعات طائفية، مارونية ودرزية وشيعية وسنية.

لبنان رغم كل مظاهر الحداثة من ملبس ومأكل ومشرب، إلا أنه من أكثر النظم السياسية العربية تخلفا. وتظل حداثته المدعاة مجرد قشرة خارجية إذا ما حكتها أزمة ما فإنه يعود سريعا إلى سيرته الأولى، مكانا جغرافيا لتجمع طوائف وقبائل وعشائر.

الأساس في الديموقراطية هو الفرد لا العشيرة أو الطائفة. لكن في بلداننا، المتقدم منها والمتأخر، ينتمي الناس إلى تنظيمات ومفاهيم إما فوق الدولة، كالإخوان المسلمين ومفهوم الخلافة، أو إلى تكوينات أقل من الدولة، مثل الطائفة أو القبيلة والعشيرة. وتبقى الدولة مجرد واجهة يستخدمها البعض لقضاء حاجاتهم مع الداخل والخارج إذا ما لزم الأمر.

مجتمعاتنا لا تعترف في العمق بالمواطنة كإطار قانوني ينظم علاقات الأفراد ببعضهم البعض. نحن أبناء طوائف وعشائر ومناطق وعائلات.

في جو كهذا يمكن التنبؤ بسهولة بفشل أي مشروع يهدف إلى تنمية الديموقراطية في المنطقة، ذلك لأن الفرد الحر هو اللبنة الأولى في البناء الديموقراطي، أما العشيرة والقبيلة والطائفة، فهي من ملامح المجتمعات التقليدية.

في هذا السياق، يكون الحديث عن أن التمثيل الطائفي المتوازن في الدول العربية، سواء في البرلمانات أو الحقائب الوزارية أو المناصب الرسمية العليا، مجرد ديكور جميل لا يستند إلى أساس حقيقي من المواطنة والانتماء للدولة. وتكون الديموقراطية اللبنانية التي يتباكون على فقدها ليل نهار مجرد وهم، فلبنان هو بلد طائفي تقليدي، لم يحكم منذ كان إلا بتقسيم السلطة بين مجموعة من الطوائف والقبائل والعشائر. الفارق المهم بين سورية والعرب الآخرين في نظرتهم إلى لبنان، هو أن سورية تعرف حجم تخلف التركيبة السياسية اللبنانية عن قرب، أما العرب الآخرون فقد خدعتهم مظاهر التمدن القشري. لبنان لا يختلف كثيرا عن كل دولنا، حتى لو اختلفت المظاهر.. تعاطوا مع لبنان كما مجتمعاتكم، فهو أوروبي فقط بديكوره الجميل. لبنان بلد طائفي بامتياز، وديموقراطيته هي مجرد تقسيم عمل بين الطوائف، مع الاعتذار لكل اللبنانيين. في ظل أزمة الدولة العربية الحديثة التي يتجاذبها من جهة إسلاميون من فوق ليطيروا بغطائها نحو أمة إسلامية أكبر، ومن الجهة الأخرى طائفيون وعشائريون يشدونها من القاع لتكوينات أقل وأصغر، تبقى أزمة الهوية مقابل المواطنة هي أزمة العرب الأولى اليوم. وبذا يكون مشروع نشر الديموقراطية في العالم العربي مجرد وهم لإرضاء طموحات صغيرة لدى كل من ديفيد ميليباند وكوندوليزا رايس.