ماذا بعد استقلال كوسوفو؟

TT

إعلان الأكثرية الالبانية المسلمة استقلال كوسوفو، بعد تسع سنوات من الوصاية الدولية والحماية الأطلسية له، لم يكن مفاجأة.. إنما المفاجأة او بالأحرى المفاجآت فكانت: الاعتراف الفوري لكبريات الدول الاوروبية (فرنسا، المانيا، ايطاليا، بريطانيا) بهذا الاستقلال، بالاضافة الى الولايات المتحدة الاميركية، من جهة، ومن جهة اخرى: معارضة روسيا العنيفة له، مع التهديد بـ«اللجوء الى القوة» للدفاع عن حقوق صربيا. بالاضافة الى امتناع دول اوروبية عدة عن الاعتراف به، كإسبانيا والمجر واليونان، وحتى قبرص ؟!

أسباب التأييد والمعارضة لا تحتاج الى طويل شرح او تبرير. بعضها يتعلق بالتضامن السلافي او الارثوذكسي مع صربيا السلافية الارثوذكسية، (والاشتراكية سابقا)، ومنها تخوف البلدان المعارضة لهذه الحركة الانفصالية الكوسوفية من ان تشجع حركات انفصالية اخرى، في اسبانيا (الكاتالون والباسك)، وفي قبرص (الاتراك) وفي روسيا (الشيشان وغيرها). كما لا ينقص المعارضون او المعترضون حججا لتبرير موقفهم: منها قرار مجلس الامن رقم 1244 الذي يعتبر كوسوفو، في القانون الدولي، تابعا لصربيا.

أما مؤيدو استقلال كوسوفو فلا تنقصهم، كذلك، الحجج والمبررات: كحق الشعوب في تقرير مصيرها، وموقف صربيا الرافض للقبول باي حل او اتفاق مع الاكثرية الالبانية المسلمة في كوسوفو. وانه لولا وجود قوات حلف الاطلسي فيه منذ تسع سنوات لكانت حربا اخرى اندلعت بين الصربيين والمسلمين في كوسوفو، شبيهة بحرب البوسنة.

ان اعتراف الدول الكبرى باستقلال كوسوفو، باستثناء روسيا، كرس هذا الاستقلال، حتى ولو كان قبول الدولة الكوسوفية الجديدة في الامم المتحدة، مؤخرا، بسبب اعتراض روسيا.

ولكن لماذا اتخذت روسيا هذا الموقف الشديد التصلب من استقلال كوسوفو؟

اكثر من سؤال برز بعد اعلان استقلال كوسوفو، 1: ما هي انعكاسات هذا الاستقلال على الصعيد الاوروبي والدولي؟ 2: هل تشكل قضية استقلال كوسوفو «حالة» جديدة في القانون الدولي؟ 3 : هل عادت منطقة البلقان الى الغليان من جديد، بعد استقلال كوسوفو؟4 : وهل دفعت هذه «الازمة الاستقلالية» العلاقات الاميركية ـ الروسية نحو حرب باردة جديدة؟

لقد ادى تفكك الدولة اليوغوسلافية الاتحادية، التي اسسها تيتو، بعد وفاته، الى تفجير كل التناقضات العرقية والدينية والثقافية في البلقان. وكانت مأساة البوسنة ادمى وابشع مظاهرها. واذا كان اتفاق دايتون قد اوقف التقاتل واقام هدنة بين العناصر المتقاتلة، في اطار نظام غريب عجيب وفريد في نوعه في علم السياسة، فان هذه الهدنة معلقة بخيوط واهية، قد لا تصمد بوجه العاصفة التي احدثها استقلال كوسوفو وردة الفعل الصربية العنيفة عليه.

لقد «تساهلت» الولايات المتحدة مع الحكومة الصربية، بالنسبة لحرق سفارتها في بلغراد. ولم تلجأ ـ كما فعلت يوما ـ الى قصف صربيا بالقنابل من الجو. ولكن ماذا سيكون موقف الولايات المتحدة وحلف الاطلسي إذا لجأت صربيا الى القوة لمنع استقلال كوسوفو؟ او إذا نفذت روسيا تهديدها باللجوء الى القوة لمنعه؟ مع العلم بان موسكو لم تحدد هذه القوة واين او كيف ستمارسها؟

من المستبعد جدا نشوب حرب عالمية ثالثة بسبب كوسوفو. وليس سرا ان اسباب ردة الفعل الروسية الاخيرة على استقلال كوسوفو لا تقتصر على المسألة الكوسوفية بحد ذاتها، او الإعراب عن تضامنها مع صربيا، السلافية الارثوذكسية، بل تتعداها الى «سلة» الخلافات بينها وبين الولايات المتحدة. لقد وجدت موسكو في القضية الصربية ـ الكوسوفية فرصة لطرح كل ما في سلة الخلافات من قضايا، لحمل واشنطن على المساومة او التراجع في بعضها.

ربما لن تأتي ردة الفعل الصربية ـ او الروسية ـ في كوسوفو، كإعلان انفصال المنطقة المسكونة من الصرب في شماله، او كدخول القوات الصربية اليها، بل يكون الرد في البوسنة، حيث يقدم صرب البوسنة على اعلان استقلالهم، ونسف اتفاق دايتون. ولكن ما قد يمسك صربيا عن الاقدام على خطوات انتقامية، او ردود فعل هوجاء، هو انها تتطلع الى الانضمام، يوما، الى الاتحاد الاوروبي، وقد يتأخر هذا الانضمام، او يتجمد اذا تحدت الدول الاوروبية الكبرى التي اعترفت باستقلال كوسوفو، او اصطدمت بقوات حلف الاطلسي الموجودة في كوسوفو.

من اهم الحجج التي حملت بعض الدول الاوروبية ـ وقد تحمل غيرها ـ على رفض الاعتراف باستقلال كوسوفو، او التريث بصدده، هو خوفها من ان يشكل سابقة انفصالية مشجعة للمطالبين بالانفصال وان «تكر السبحة» (ويسمون ذلك في الغرب «عملية الدومينو»). فالباسك والكاتالون في اسبانيا هم طلاب انفصال واستقلال، وبلجيكا مرشحة للتقسيم بين الفلامان والوالون، وقبرص للتقسيم بين اتراك ويونانيين. في اسكوتلاندا حزب انفصالي، كما في آيرلندا، كما في سري لانكا والصين والقفقاز، وفي كندا والهند. اما في العالمين العربي والاسلامي، وفي افريقيا، فيكاد لا يخلو بلد او دولة من نزاعات عرقية او دينية او طائفية، او ثقافية، او من اضطهاد للأقليات، وكلها اسباب مولدة لدعوات او حركات انفصالية، تبرز وتتراجع تبعا للظروف الموضوعية الداخلية والدولية.

هل يشكل استقلال كوسوفو مؤشرا آخر جديدا على نهاية ما سمي بالدولة ـ الامة؟ أم هو المسار الطبيعي للتاريخ بعد ان فقدت القوة العسكرية قدرتها المطلقة في حسم النزاعات وتقرير مصائر الشعوب؟ ولماذا تتمسك صربيا بكوسوفو وهي تتطلع الى الانضمام الى الاتحاد الاوروبي، كغيرها من الدول البلقانية و«اليوغوسلافية» سابقا؟ وهل الصيغة «الاتحادية» افضل من الصيغة «الوطنية»؟ وهل نحن على عتبة عصر جديد، الدولة فيه هي «دولة ـ مواطنين» وليس «دولة ـ امة»؟ وهل افضل طريقة لحماية حقوق الاقليات ضمانها اقليميا ودوليا، وليس دستوريا او ديموقراطيا فقط؟

لقد سبقت الولايات المتحدة والدول الغربية الدول العربية والاسلامية في الاعتراف باستقلال كوسوفو، وهي دولة اسلامية في اكثرية سكانها. وربما كان في هذا التريث بعض الحكمة، نظرا للإشكالات الدولية المحيطة به وحرصا على صداقة الدول التي عارضته. ولكن الاعتراف العربي والاسلامي بهذه الدولة المسلمة، سكانيا على الاقل، لن يتأخر، لا سيما بعد أن حل بالبوسنة ما حل، وما انتهت اليه من نظام حكم لا يعرف فيه نوع او طبيعة الاستقلال.

إن كوسوفو بلد صغير وفقير، وليس من السهل على ابنائه ان «يقلعوا» باستقلالهم اذا لم يتلقوا مساعدات خارجية، او لم يدخلوا في الاتحاد الاوروبي (وهذا يتطلب سنوات وشروطا صعبة)، او إذا لم ينضموا، كألبانيين اصولا، الى البانيا. ولكن تلك قصة اخرى.