إصرار غريب على الهروب إلى الأمام

TT

أعتقد أن الولايات المتحدة كانت تتوقّع سلفاً، ردات الفعل على قرارها إرسال قطع حربية بحرية إلى قبالة الشاطئ اللبناني.

ففي واشنطن ساسة ـ مهما كان رأينا فيهم ـ لديهم قناعات أو ارتباطات مصلحية يعملون بموجبها. ويدركون أنهم يخضعون لأنظمة ومحاسبة سياسية، ضمن نظام يضبط توازناته مبدأ فصل السلطات. وتقوم آلية عمله السياسي داخلياً ودولياً على المؤسسات.

أما في العالمين العربي والإسلامي فقد تقزّمت «المؤسسة» السياسية تدريجياً حتى انحصرت في أحيان كثيرة بأهواء شخص واحد وأحقاده وأوهامه وأطماعه وهوسه. وصار «الشخص» مصدر الشرعية والهداية ومعيار الصواب والخطأ، ومقرّر الوطنية والعمالة، تسجّل باسمه الأحزاب و«الجبهات» الائتلافية الديكورية الحاكمة، وتعدّل الدساتير من أجل خاطره، ويعلن وحده الحروب يمنةً ويسرةً ولا مَن يحاسبون.

في حالة كهذه، يصبح متعذراً الرّصد الجاد لأي ردات فعل بعيدة عن:

ردات الفعل الغريزية العدائية ضد قوة أجنبية عاتية سجلّ سوابقها السياسية إزاء المنطقة حافل بالسلبيّات، ولا سيما موقفها المستمر من قضية فلسطين.

خطابيات النضال الصبياني الانتحاري المصرّ على مواجهة يختار الخصم زمانها ومكانها وسلاحها.

المواقف التضليلية المنافقة من قوى وقيادات تنتمي إلى مدرسة «عقد الصفقات التحتية» وراء غبار معارك التصعيد الابتزازي.

وحقاً تبارت بالأمس الأقلام والأبواق على التصدّي المناسب.. بمجرّد إعلان واشنطن عن تحريك قطعها البحرية، مع أن مثل هذه الخطوة كانت واردة من قوة كبرى لديها أسطول ـ هو الأسطول الأميركي السادس ـ موجود بصفة دائمة في بحيرة منطقة عملياته التي هي البحر الأبيض المتوسط، ولديها مصالح تعتبرها حيوية في المنطقة.

الغريب أن البعض استغرب هذه الخطوة.

فكيف يجوز استغراب مناضلي «العداء الشديد» لأميركا إقدام واشنطن على دعم من ينعتونهم بـ«أصدقائها» و«عملائها» إذا كانوا فعلاً كذلك.. أليس هذا أقل واجباتها؟

أليس ثمة طفولية ساذجة في كلام كالذي تفوّه به أحد نواب «حزب الله» (اللبناني) الطريّي العود الذّربي اللسان، باعتباره أن تمركز المدمرة «كول» أمام شاطئ لبنان إنما «يثبت صحة قول المعارضة ان مشكلتها لم تكن مع فريق داخلي، بل مع التدخل الاميركي، وقد باتت المواجهة مع اصحاب القرار الفعليين في واشنطن»! فإذا كانت معركة «حزب الله»، الذي هو أصل المعارضة وفصلها وقضّها وقضيضها، منذ البداية مع واشنطن.. وإذا كان من أجل ذلك قرّر فتح «حرب مفتوحة» ضدها (وضد ربيبتها إسرائيل)، ألا يكون من الطبيعي توقّع أن تلجأ إلى إجراء عسكري مضاد؟

وإذا كان النائب الكريم حريصاً على مواجهة العدوان الذي تحضّر له «كول» وأخواتها، هل يأتي كلامه عن أنه وحزبه لا يواجهان «فريقاً داخلياً» في سياق الإصرار على إلغاء شرعية وجود أي فريق لبناني خارج ظل «حزب الله» ومن هم وراء الحزب؟.. أم أنه بمواصلة حملة تخوين الخصوم يتصوّر أنه يساعد في إعادة ترميم الجبهة الداخلية لقطع الطريق على المغامرات الإقليمية والدولية ضد لبنان؟

الأسوأ من كل هذا سيل الكلام اللا مسؤول، الذي يصدر تباعاً عن عدة مصادر حاملاً «شماتة» ما بانهيار «المشروع الأميركي» في الشرق الأوسط.. ومن خلفه الولايات المتحدة ككل. وإذا كان الاستشهاد بما تنشره بعض الصحف الحكومية في دمشق من تعليقات وتحليلات عن انهيار أميركي حاصل فعلاً.. يهين أي تفكير عاقل، فكيف يجوز التعليق على كلام الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد عن أن إيران أضحت «أعظم قوة في العالم»؟

أنا شخصياً أتمنى نهاية زوال «الأحادية» الأميركية المهيمنة على العالم، وأرجو أن أعيش ليوم تظهر فيه «تعددية أقطاب» تعيد التوازن، ومن ثم روح الحوار والتعاون والاحترام المتبادل، بين أمم الدنيا وشعوبها وحضاراتها.

لكن، في اعتقادي، لا يحق لدول استفتاءات الـ99% التي يطمح 90% من شبابها إلى الهجرة منها عند أول فرصة، والدول المستعجلة على ترويض الطاقة النووية مع أنها عاجزة عن تحويل نفطها الخام إلى بنزين يخفف من معاناة مواطنيها.. الشماتة بأحد. كما أسمح لنفسي بالقول إنه حتى قطر، الصديق المشترك لجميع محاور الصراع، لا تصدّق أن الشمس الأميركية آفلة لا محالة.

المشكلة الحقيقية أن منطقة الشرق الأوسط تمر بمرحلة صعبة، وكل اللاعبين الأساسيين يحسبون حسابات مواقعهم فيها بعد الخروج ـ بطريقة ما ـ من «عنق الزجاجة» الراهن.

فلدى إيران أولويّة سلاحها النووي الذي سخّرت لخدمته كل خطابها السياسي و«شرعيته» التحريرية الإلهية، بما في ذلك تمدّدها الإقليمي تحت ذريعة تحرير فلسطين وطرد الأميركيين.

ولدى سورية حلم «الدور الإقليمي» الذي تتوق إليه بأي تفويض كان من أي مصدر كان، وهي اليوم تسعى إليه عبر البوابة الإيرانية طالما ظلت مطمئنة إلى الدعم الضمني الإسرائيلي لبقاء نظامها. ولدى إسرائيل في «حقبة صراع اليمينين» المتطرف والأكثر تطرفاً إشكالية التناقض الوجودي، القائم على سلام مرفوض وأمن مفروض.

أما الولايات المتحدة فقوة كبرى حساباتها الاستراتيجية النفطية ـ الأمنية معروفة.. أو يفترض أنها كذلك.. إلا لأدعياء النضال والتحرر في عالمنا العربي الجريح.