إلا الرموز الدينية

TT

لن ينتهي الجدل حول أزمة الرسومات المسيئة لجناب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. السيناريو كالتالي: سيتشبث المسلمون بالدفاع المستميت عن نبيهم ومعهم في ذلك الحق الكامل، وسيتمسك الدنماركيون ومعهم أغلبية الغربيين بمبدأ الدفاع عن الحريات الصحفية، ولن نخرج من هذا المأزق المظلم بدليل أن أكبر عملية مقاطعة جماعية حصلت في التاريخ كانت تلك التي قاطع فيها عدد كبير من المسلمين ومن دول إسلامية مختلفة المنتجات الدنماركية بعد نشر الرسوم المسيئة قبل أكثر من سنتين، ومع ذلك تحدتها الصحف الدنماركية بإعادة نشر هذه الرسوم البذيئة بصور تضامنية غير مسبوقة.

ليس ثمة مخرج من أزمة الرسومات المسيئة وحماية عرض المصطفى صلى الله عليه وسلم من التدنيس غير تبني المؤسسات الدولية والحقوقية العالمية سن قانون دولي لحماية الرموز الدينية لكل الأديان والمذاهب العالمية، أشبه بالقانون الذي يجرم من يشكك أو يسخر من المحرقة النازية لليهود في ألمانيا، فهذا من شأنه أن ينزع فتيل صراع الحضارات الذي نرى بعض أعراضه المرضية بادية واضحة.

المؤلم في شأن الرسومات السيئة أن الصحف الدنماركية التي تضامنت مع الرسام الدنماركي بإعادة نشر هذه الصور القبيحة هي نفسها التي تشكو من عدم اندماج الجاليات المسلمة في المجتمعات الغربية، ومعروف أن من بدهيات هذا الاندماج احترام معتقدات الأقليات وتقدير رموزها، وإلا كيف تريدني أن أندمج وأنت تسمح بسب وشتم أحب البشرية إلى قلبي وتضفي عليه أقذر الأوصاف وأسوأ العبارات؟

أما البريطانيون فقد كانوا أكثر حنكة وإدراكا لواقع وحقوق الأقليات المسلمة من نظرائهم الدنماركيين، ففي استفتاء جرى في بريطانيا مؤخرا كان من نتائجه أن من حق الصحف امتلاك الحرية التحريرية وأن الصحف يجب أن تكون حرة، ولكن في الوقت نفسه يرى كثير من البريطانيين بأن عليهم أن يحترموا المعتقدات والآراء الدينية للآخرين ومن بينهم المسلمون، ولهذا رفضت الصحف البريطانية إعادة نشر الرسومات المسيئة بحجة الرغبة في عدم جرح مشاعر أقلية مسلمة هي في النهاية جزء من شريحة المواطنين البريطانيين.

ثمة أمر آخر سيساعد الجميع في تجنب الجميع حربا دينية باردة قد تطول، وهو أن يفهم الغربيون أن نظرة المسلمين تجاه دينهم وتجاه رموزهم الدينية تختلف من حيث القوة والحماسة عن نظرة الغربيين إلى ديانتهم ورموزهم الدينية، فمثل هذا الفهم يعتبر مفتاح الحل لكثير من الإشكالات التي يواجهها الغربيون مع جالياتهم المسلمة. ثم إن الخطورة تكمن في استحالة ضبط ردود فعل بعض المسلمين، فهم مثل غيرهم من البشر فيهم المتعقل وفيهم المتأني وفيهم المندفع والمتوتر، فالسماح لمثل هذه الرسوم السيئة وإعادة نشرها هو بمثابة صب الزيت على النار وهي الكفيلة باستدراج المتحمسين من المسلمين لارتكاب حماقات.

في ذات الوقت على العقلاء في الجاليات الإسلامية أن يتجاوزوا ردود الأفعال العاطفية وعدم الاكتفاء بتنظيم المسيرات والمظاهرات فقط، وأنه يتحتم عليهم الارتقاء بردود الفعل إلى تواصل مؤثر مع المجتمعات الغربية خاصة من خلال الإعلام، وعليها أيضا أن تدشن برامج جادة في التعريف بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، على غرار البرنامج العالمي للتعريف بنبي الرحمة الذي تشرف عليه رابطة العالم الإسلامي، فقد اختط لنفسه استراتيجية الفعل بدل رد الفعل ونأى البرنامج بنفسه عن الدخول في حالة اشتباك ومهاترات وخصومة مع أية جهة، وبسبب هذه الاستراتيجية الهادئة الرزينة لاقت مناشطه وبرامجه في أوروبا قبولا وانتشارا.