أكذوبة العبقرية الصهيونية.. تبطلها 60 عاما من فشل (التكيف والتعامل)

TT

هؤلاء ليسوا (معادين للسامية)، ليسوا عربا ولا مسلمين، وإنما هم (يهود) عقلاء منصفون: لم تحتمل ضمائرهم (جرائم) المؤسسة الصهيونية التي اختطفت اليهودية واليهود واقترفت باسمهما ما حملت هؤلاء اليهود الأحرار على الجهر بالبراءة مما تفعله المؤسسة الصهيونية في الأرض الفلسطينية المحتلة. تستعد المؤسسة الصهيونية للاحتفال في مايو القادم بمرور ستين عاما على قيام (دولتهم)، أي على اغتصاب وطن الفلسطينيين وتشريد أهله منه: بالقوة والبطش والحرق والتدمير واستعارة الكثير من الوسائل التي صنع بها النازي المحرقة اليهودية أو الهلوكوست.

بإزاء هذه الاستعدادات لاحتفال المؤسسة الصهيونية بـ (جريمة القرن العشرين): شق جدار الصمت الآثم: صوتان يهوديان عاقلان عادلان: صوت فرد، وصوت جماعي:

أولا: الصوت الفرد. فقد كتب الكاتب اليهودي مايك ماد لحوسي مقالا في جريدة «الجارديان» بتاريخ 4/3/2008 جاء فيه: «بما أن الصهيونية هي آيديولوجية وحركة سياسية فهي موضع جدل. ومن حق اليهود ان يعتبروا الادعاء الصهيوني بالحق في فلسطين: ادعاء غير منطقي وغير عادل، ومنطويا على مفارقة تاريخية، ومن حق اليهود أيضا أن يعتبروا الدولة الصهيونية دولة عنصرية: نظرية وتطبيقا، وأن يعترضوا وفق أسس سياسية وفلسفية، ويهودية أيضا: على أي دولة تقوم على اعتبارات تفوق ديني أو عرقي.. ثم من حق اليهود أن يرفضوا فكرة أن اليهود ـ كشعب ـ يكونون أمة تصبح فيما بعد دولة قومية في اقليم معين.. ويحق لليهود ـ كذلك ـ، بعد دراسة معاملة اسرائيل للفلسطينيين: أن يصلوا الى نتيجة محددة وهي: ان السبب الحقيقي وراء الصراع هو (الآيدلوجية الصهيونية).. إن هذه الأسباب كافية لتفسير معاداة تيارات يهودية للحركة الصهيونية.. ومن المفارقات: اننا نحن المعادين للصهيونية وتجاوزاتها كلما تكلمنا ضد دولة اسرائيل (بتعريفها الايدلوجي العنصري)، ووجهنا بسيل من الانتقادات الشخصية وغير الموضوعية، فنحن في نظر خصومنا: إما مصابون بخلل نفسي أو عصبي، وإما يهود سيئون، أو يهود ينقصنا الايمان، على حين أن معاداتنا للسلوك الصهيوني تنبع من رفضنا لأي عنصرية، ولكل عدم مساواة في الحقوق، وهي مواقف تعبر عن تضامننا مع الفلسطينيين الذين نعتبرهم ضحايا الظلم والاستعمار».

ثانيا: الصوت اليهودي الجماعي.. فبمناسبة التهيئة للاحتفال الصهيوني بقيام كيانهم: جعلت باريس اسرائيل (ضيف الشرف) في معرض الكتاب الفرنسي الذي سيقام في أواسط شهر مارس الجاري.. ولقد سارع (الاتحاد اليهودي الفرنسي لأجل السلام) الى إصدار بيان شديد الوضوح، مناهض بحسم للمظالم الصهيونية في فلسطين.. نقرأ في البيان ـ مثلا ـ: «إن تكريم دولة اسرائيل في معرض الكتاب الفرنسي هو عملية تزويرية تكرم دولة تقوم تحت ستار الديمقراطية بالتفريق بين مواطنيها غير اليهود، وتتجاهل ـ كقوة محتلة ـ كل التزام في هذا المجال، كما تمارس العقوبات الجماعية بحق شعب كامل.. كيف يمكن الاحتفال بستين عاما على نشوء إسرائيل وبصورة تتعمد ان ننسى ان هذا التاريخ نفسه يتزامن مع نكبة الفلسطينيين؟.. هل نحقق العدالة لذاكرة البعض بحذفنا لذاكرة البعض الآخر؟.. اننا نذكر بالواقع وبالنكبة عبر أصوات لم تكف عن القول ـ داخل اسرائيل نفسها ـ بأن السلام لا يمكن إحلاله بالإلغاء والكذب فيما يخص الماضي».. ومن استراتيجية هذا الاتحاد اليهودي الفرنسي: إقامة سلام عادل في الشرق الأوسط يضمن حقوق الشعب الفلسطيني من خلال تفكيك المستوطنات الصهيونية.. وإزالة الجدار العنصري.. وإطلاق الأسرى.. وإقامة دولة للفلسطينيين مع ضمان حق العودة لهم، كما يطالب الاتحاد اليهودي «!!!» بإعادة النظر في قانون (حق العودة اليهودي إلى اسرائيل) مهما كان أصل هذا اليهودي!!.

هذه (مواقف يهودية) شديدة الوضوح، عالية العقلانية، موفورة الضمير والعدالة والأخلاق، وهي مواقف توكد ـ فيما توكد ـ حقيقتين كبيرتين.

1 ـ حقيقة ان اليهود (ليسوا سواء)، وأن تعميم الحكم بالسوء على اليهود أجمعين ينطوي على ظلم فادح، كما ينطوي على (غباوة سياسية): من حيث التطوع الأبله بتكثير جبهة الأعداء، ومن حيث العجز عن استثمار هذه الأصوات لصالح قضايانا ومواقفنا.

2 ـ حقيقة: أن دعوى (التفوق العبقري الصهيوني) إنما هي أكذوبة يجب أن تنتهي، وأن يكف عازفوها ـ منهم ومنا ـ عن عزفها النشاز.

وأكبر حقيقة صادقة تلغي هذه الأكذوبة هي مرور (ستين عاما) من الفشل على قيام الدولة الصهيونية. فعبر عقود ستة (1948 ـ 2008) عجزت الصهيونية عن (التكيف) العقلاني السوي مع المنطقة. عجزت عن أن تكون (كيانا طبيعيا): يعيش كما يعيش الناس، وتتصرف كما يتصرف الناس الأسوياء: بواقعية، وحسابات صحيحة، وتواضع، ودون دعاوى بالاستعلاء، والتفوق، والهيمنة: الجغرافية أو النوعية.. وبديه أن العجز عن ذلك كله: (دليل بلادة سياسية)، لا برهان عبقرية سياسية.. فمن معالم التوهج العبقري السياسي: سطوع الرؤية، ودقة الحساب، ومواراة الناس، وترسيخ اقتناع الذات بـ(المكاسب النسبية)، واجتناب التسلي بإشعار الخصم بمرارة الانكسار والهزيمة.. ومن الثابت أن المؤسسة الصهيونية محرومة ـ عبر عقود ستة ـ من هذه المواهب الذكية النافعة.. فأين.. أين.. أين العبقرية المدعاة؟!.

ان الوقائع الاستراتيجية والسياسية الصهيونية على الأرض، وفي التاريخ توثق حرمان المؤسسة الصهيونية من العبقرية المزعومة.

1 ـ من حيث التاريخ، فإن الصهيونية (تكرر) ـ بوتيرة مفزعة ـ التجارب التاريخية المحزنة التي وقعت على اليهود.. ومن هنا ندرك لماذا يرفع عدد كبير من عقلاء اليهود في العالم أصواتهم بنقد خطايا الصهيونية (راجع إن شئت النموذجين المثبتين في أول المقال). فأحد أسباب هذا النقد هو: أن غلاة الصهيونية لم يعتبروا ـ بالقدر الكافي ـ مما حدث لليهود عبر التاريخ. فقد اضطهد اليهود ـ لأسباب شتى ـ أيما اضطهاد، وكان ما نزل بهم من الأهوال والمآسي (عبرة) كافية لأن يفروا فرارا من كل ظلم واضطهاد تغريهم أنفسهم بإنزاله بالآخرين، لكن الواقع ينطق بعكس ذلك. ينطق بأن المظلوم اليهودي انقلب ظالماً عاتياً: بالمعنى السياسي والقانوني والمعنوي والمادي للكلمة.. مثال ذلك: أن النازي اضطهدهم وفتح لهم المحرقة، وبعد عقود ستة أو يزيد صنعوا محرقة للفلسطينيين في غزة: صنعوها بالفعل، ثم أصّلوها بالمصطلح نفسه اذ صرح مسؤول كبير منهم بأن اسرائيل ستحرق الفلسطينيين في (المحرقة).

2 ـ والواقع نفسه يوثق حرمان الصهيونية من العبقرية المتوهمة: بعد توثيق التاريخ:

أ ـ ان ما صنعته اسرائيل في غزة: كتب (ميلادا جديدا) للعنف الأعمى الذي ستسود موجاته العالم: اليوم أو غدا: فقد خرجت حشود ضخمة من الناس مشحونة بالغضب المضاعف في مدن عربية واسلامية عديدة، وفي مقدمة هذه المدن: غزة والضفة، ولوحظ ان الصبغة الغالبة على هذه الحشود هم الشباب، لا سيما من هم دون العشرين.. وما فعلته اسرائيل هو ـ بلا ريب ـ (تعبئة عالية) لهذه الأجيال: تعبئة بأقصى طاقات التذمر والسخط والتحفز والانتقام.. وهذه الطاقات ستعبر عن نفسها بإحدى وسيلتين: وسيلة المقاومة العادية للاحتلال، وهذا ليس في صالح اسرائيل.. أو وسيلة الانعطاف نحو (الارهاب الشامل). وهذا ليس في صالح اسرائيل، ولا في صالح المنطقة والعالم.. فأين العبقرية المدعاة في هذه التصرفات المعجونة بالبلادة والغباوة والعمى الاستراتيجي؟

ب ـ اتهمت اسرائيل باغتيال عماد مغنية، وتوقعت ـ بداهة ـ ردود فعل انتقامية، وكان عليها ـ وفق هذا التوقع ـ أن تعمل على (عزل) حزب الله حتى تقلل ـ على الأقل ـ من فرص رد الفعل الانتقامي، لكنها فعلت العكس. فـ (محرقتها) في غزة، ربما خدمت حزب الله في القيام بعملية انتقامية قد يفرح بها الرأي العام العربي المحزون بما يجري في غزة ـ لا جرم ان هذا برهان بلادة، لا دليل عبقرية.. يضاف الى ذلك انها بتصرفاتها هذه رفعت معدلات شعبية حماس (كما صوتت لصالحها في الانتخابات التشريعية من قبل) من جهة، وسببت حرجا عميقا للسلطة الفلسطينية من جانب آخر.. وهذه بلادة بكل توكيد.

ج ـ السلوك الصهيوني مع العرب أجمعين: مجّرد كله من (العبقرية) الكذوب وهذه منظومة من الوقائع والأدلة:

أولا: ان السعودية بلد يختار كلماته وعباراته بعناية دبلوماسية معروفة في وصف المواقف السياسية لهذا الطرف او ذاك. وفي التعليق على أفاعيل اسرائيل في غزة، وصف مصدر سعودي مسؤول هذا السلوك الصهيوني بأنه (محاكاة لجرائم الحرب النازية).. لماذا؟.. لأن هذه العبارات الصريحة الحادة الجادة: قصد بها التعبير السياسي المباشر الذي يصور الحالة ـ كما هي ـ أي بدون تلطيف، لأن العدل والظرف لا يسمحان بتلطيف.. وليس من العبقرية: اضطرار طرف ما لمثل هذا الموقف.

ثانيا: لوّح الوزراء العرب في اجتماعهم الأخير في القاهرة بسحب مبادرة السلام العربية ونفض اليد منها، وقد حفز العرب الى هذا الموقف: المجازر التي ترتكبها اسرائيل في غزة، اذ هي مجازر تجعل الفجوة بين (المبادرة) وبين (الواقع) مثل الفجوة بين لطف الحمام، وسعار الوحوش، مع مافي ذلك من مفارقات محرجة جدّ محرجة.. من هنا فإن السلوك الاسرائيلي العملي مناقض لدعاوى العبقرية السياسية والحضارية.

ثالثا: ان السلوك الصهيوني في غزة ـ وتجاه السلام بوجه عام ـ قد أقام المزيد من (الحواجز النفسية) بين اسرائيل وبين الشعوب العربية والاسلامية، ولا يفعل ذلك الا شديد الحرمان من العبقرية السياسية.

والدروس المستنبطة مما تقدم هي:

أ ـ ان اسرائيل فشلت خلال 60 عاما في (تطبيع) علاقاتها مع محيطها واقليمها.. وهذه خيبة سياسية وتاريخية وحضارية.

ب ـ ثبت ان السياسات الاسرائيلية عبر هذه الاعوام الستين، ليس فيها ما يوكد رغبتهم الصادقة في السلام.

ج ـ ان هذا (العمى) الصهيوني (شؤم) ليس على أهله فحسب بل هو شؤم على كل من يثق بالسلوك الصهيوني، ويبني رؤية سياسية على هذه الثقة.