دور واشنطن في أسطورة فيديل كاسترو

TT

أطفأ فيدل كاسترو سيجاره ـ السياسي ـ الأخير بعد نصف قرن من ماراثون السلطة، ليؤكد دور البيولوجيا في تعديل المسار السياسي في أمم العالم الثالث، حيث يلقي الديكتاتور بقبقاب sabot الأيديولوجية في صندوق تروس عجلة التاريخ.

مسكين فيديل، كما نادته الجماهير بالاسم الاول، لم تنته حياته «مقاتلا الامبريالية حتى آخر جندي في الوية الاشتراكية»، أو«شهيدا بطلقة عميل للاستعمار».

يقرأ فيديل هذه الايام مرثيته منسحبا من دائرة الضوء، ليس من المسرح الثوري على نقالة رفاق يبكون اصابته بسكتة قلب، اثناء خطبة خمس ساعات لعن فيها امريكا والرأسمالية العالمية؛ بل وهو يسعل بصوت يستدعي الشفقة مرتديا روب المرضى في مستشفى هافانا العمومي.

فيديل كاسترو روث، ابن صاحب مزارع اسباني ثري، وغسالة ملابس، ادار ظهره لعقود حفلت بقتال الشوارع، وزعامة الحركة الطلابية، والمراوغة السياسية، كمقاتل العصابات ومفكر اشتراكية الادغال، الذي أصبح ايقونة ثوار اليسار العالمي كعدو أسطوري لأمريكا.

كاسترو مدين لواشنطن، وأحيانا للحظ، بمؤهلات الزعامة العالمية ودعم شهرته سواء بمؤامرات السي.آي.ايه، المضحكة، كإرسال سيجار ينفجر ليحرق ذقنه أو تسميم الآيس كريم في عربة بائع المرطبات، الذي تردد عليه يوميا؛ أو بسوء إدارة أمريكا منذ ـ داويت ايزنهاور حتى جورج بوش الأصغر ـ للسياسة الخارجية قبل وبعد رئاسته لكوبا.

ورغم ديكتاتوريته وكراهيته لليبرالية الديموقراطية وحرية الفرد، فإن قناعة كاسترو بأيديولوجية الشمولية بلغت من القوة قدرته على اقناع رفاقه بها في بداية المشوار عام 1953 عندما اقنع مائة رجل وامرأتين بقبول قيادته، وهو الجاهل بفنون العسكرية، في مهاجمة الحامية الأساسية لرئيس كوبا وقتها فولغينشيو باتيستا، من دون خطة واضحة ليفقد نصف مقاتليه حياتهم. نجا كاسترو ليعاود الظهور بطلا في فترة المد الثوري في أمريكا اللاتينية.

تنقل بين السجون والمنفى، ليعاود الكرة عام 1956 بهجوم آخر من البحر ضد قوات الحكومة بزعامة باتيستا، من دون خطة مدروسة ليهلك كل رجاله تقريبا وينجو فيديل بحياته، مع شقيقه الأصغر راؤول، ومتمرد ارجنتيني ترك دراسة الطب ليلتحق بالثورة الأممية اسمه ارنستو تشي غيفارا. بدأت واشنطن سلسلة اخطائها بحق شعب كوبا، عندما كان مزاجها «تحرريا» مناهضا للاستعمار القديم فدعمت انقلابات عسكرية غير شرعية اسمت نفسها «ثورات» كجزء من تصفية الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية.

تخلت امريكا في الخمسينات عن دعم الحركات البرلمانية الديموقراطية في افريقيا والشرق الاوسط، كما فعلت مع الشعب المصري بدعمها العسكرتارية الناصرية ضد الشرعية الدستورية، عندما اقنعت ادارة ايزنهاور نفسها، بسذاجة مفرطة، بأن الانقلابات العسكرية بيافطات «ثورات التحرر» ستهجر لندن وباريس لتقتبس مبادئ الدستور الامريكي وحرية الفرد وحرية السوق، لمجرد ان واشنطن اغدقت ملايين اطنان المعونة، كبرنامج النقطة الرابعة، لإنقاذ الاقتصاد الذي خربه العسكر بعد اغتصابهم السلطة؛ لتكتشف، بعد فوات الأوان، أن الضباط الذين خانوا القسم الدستوري للوطن ونكثوا بالعهد وانقلبوا على قانون البلاد، لا يمكن الثقة بولائهم لقوة عظمى بريقها هو الشرعية الديموقراطية الدستورية التي اغتالها هؤلاء.

وبالسذاجة السياسية نفسها، ادارت واشنطن ظهرها لشعب كوبا عندما ضجرت من فساد نظام باتيستا. وبدلا من الضغط على باتيستا لإجراء انتخابات دستورية تحت مراقبتها، وتحت اشراف دولي لدعم الديموقراطية، تركته فريسة لعصابات ثورية تردد شعارات الاشتراكية والإصلاح الزراعي من دون ان يكون لها أي خبرة بالعمل السياسي ولا تؤمن قيد انملة بالديموقراطية او الشرعية البرلمانية.

دخل فيديل وراؤول وتشي غيفارا ومقاتلوهم هافانا في 8 يناير 1959، وواشنطن تتفرج فباتيستا «يستاهل»؛ ليعلن كاسترو «شفاء» كوبا من مظاهر جزر البحر الكاريبي، بإغلاق بيوت اللهو، والكباريهات وراقصات التشا تشا تشا. وأعلن ايضا نهاية الموت والعمى بسبب نقص الدواء، لكنه منع الابتسام والترحيب بالضيوف السائحين ودعوتهم لقضاء الوقت الطيب من اجل حفنة دولارات، فمنع «الفرفشة» عن شعب يحب الغناء والرقص في الشوارع.

وللإنصاف، فإن انجازات ثورة كاسترو في السنوات الاولى كانت مدهشة، رغم غياب الديموقراطية وحرية الاختيار. تم القضاء على الأمية مع نهاية عام 1961، وبعد عام آخر استكمل نظام التأمين الصحي وتقنين غذاء الافراد بالبطاقة ليضمن الحد الأدني من السعرات الحرارية اليومية، لكن الطعام كان مقززا ولا حق للفرد في اختيار ما يأكله.

ورغم اعجاب يساريي وثورجية العالم بـ«إنجازات» الثورة الكوبية من بعيد ـ والتي تمثلت في شكل ارسال البعثات الايديولوجية المنتقاة من شباب بلدان الانقلابات العسكرية، ومن الأحزاب الشيوعية الأوروبية الى احتفالات هافانا ـ فاتهم حقيقتان مهمتان. الأولى أن انجازات كاسترو تمت بدعم سخي من موسكو، عندما امتص الحزب البلشفيكي دماء شعوبه لينفق على «ثورات التحرر» وكاسترو وسباق التسلح.

الثانية ان البعثات الثورجية كانت تشاهد فقط الواجهات والاحتفالات الشمولية، بينما تهدمت مباني كوبا فوق رؤوس ساكنيها، ودمرت المواصلات العامة لغياب قطع الغيار وانهارت صناعة السكر، عماد اقتصاد البلاد. وتعالت صراخ المعتقلين السياسيين المعارضين من زنزانات التعذيب، وأصبح تعديل نصيب الافراد من الغذاء في بطاقات التموين جزءا من العقوبة السياسية للمعارضين (مثلما اختبر العراقيون الأمر تحت حكم صدام حسين). وفرضت الرقابة على الصحف وانتهت حرية التعبير والفنون (تحت شعار تطويع الفن لخدمة المرحلة الثورية)؛ وتحول نصف الشعب الى «مخبرين» يتجسسون على النصف الآخر طمعا في المزيد من الطعام والسكر على بطاقات التموين، او طمعا في مسكن المعارض الذي يذهب «وراء الشمس» اذا ما تم التبليغ عن نشاطه «الرجعي».

ورغم سوء الاحوال، وجد كاسترو لنفسه قوى درامية خارقة، ليخلق حلما وهدفا اشتراكيا امميا على مسرح العالم الثوري كله، بفضل الدعاية اليسارية، وأموال موسكو، والاهم المقاطعة الامريكية والحصار الاقتصادي غير المنطقي الذي فرضته واشنطن على كوبا فجاء بنتائج عكسية. فقد اكسب كاسترو تعاطف اليسار العالمي، وبرر سوء الحالة الاقتصادية للشعب وغذى روح العداء لأمريكا وأدى لتجويع معارضي كاسترو بنظام البطاقات.

أما عملية خليج الخنازير عام 1961 فكانت أعظم هدية قدمتها السي.اي.ايه لفيديل وراؤول ليتمكنا من هزيمة 1400 من المعارضين الكوبيين، ويعلنا كوبا دولة اشتراكية رغم أنف امريكا.

اصلاح اخطاء واشنطن بيد رئيس امريكا الجديد في يناير القادم ـ السناتور ماكين او هيلاري كلينتون يميلان لاستمرار الحصار الاقتصادي، مما يزيد الشمولية الشيوعية قوة.

باراك اوباما وعد بالحوار مع كل اعداء امريكا، بداية بزعماء كوبا. اذا وعد الرئيس القادم بعدم التدخل في شؤون كوبا، وقدم معونة اقتصادية مالية، وتوسط بين حكومة راؤول كاسترو والمنفيين الكوبيين في فلوريدا في محادثات صلح، فربما تعود الديموقراطية لكوبا.