التجزئة القومية حلاً؟

TT

 كتب جيري مولر، أستاذ التاريخ بالجامعة الكاثوليكية الأمريكية، مقالة شديدة الأهمية في العدد الأخير من مجلة «فورين افيرز» حول المسألة القومية العرقية وأثرها على تشكل الدول في العالم الراهن. ولا ترجع أهمية المقالة إلى الاعتبارات النظرية والمعطيات التاريخية التي ينضح بها، وإنما إلى طبيعة السياق الفكري والاستراتيجي الذي يتنزل فيه في اللحظة الراهنة. والأطروحة التي يدافع عنها مولر هي أن الولايات المتحدة تخطئ في إسقاط نموذجها الوطني على تجارب البلدان الأخرى ذات التنوع القومي والعرقي، إذ قد يغدو التقسيم والتفكيك هو الحل الأمثل لضمان العيش السلمي بين مكوناتها. ويميز مولر بين تصورين للقومية هما من جهة المقاربة الليبرالية السائدة في أمريكا التي تنطلق من اعتبار الأمة وحدة سياسية تتجاوز التنوع العرقي والخصوصيات الثقافية والمقاربة العرقية التي تنظر للأمة من حيث كونها تتأسس على تراث مشترك موحد ويتحدر أفرادها من أصل واحد. ويسود اعتقاد في أوروبا أن القومية السائدة فيها هي القومية الليبرالية، إلا أن مولر يرى انه عندما بدأت الدول الحديثة تتشكل في القارة كانت الحدود السياسية والحدود القومية واللغوية متناسقة الى حد بعيد في الضفة الأطلسية، ولذا كان من السهل أن تنغرس فيها القومية الليبرالية باعتبار واقع التجانس العرقي القائم فيها. فقبل القرن التاسع عشر بكثير كانت بريطانيا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا والسويد بلدانا ضعفت فيها الانقسامات العرقية، وأصبحت تتمتع بقدر واسع من الانسجام الثقافي والاجتماعي.

وفي وسط القارة اتحدت الكيانات والدويلات الناطقة بالإسبانية والإيطالية في شكل دولتين قوميتين منسجمتين في منتصف القرن التاسع عشر. أما شرق القارة فوضعه مختلف باعتبار انه ظل الى حدود 1914 موزعا بين إمبراطوريات ثلاث متعددة القوميات والملل هي الإمبراطوريات النمساوية والروسية والعثمانية. وعلى الرغم من هذا الطابع التعددي، إلا أن الوعي القومي كان غائبا، لاختلاف وتراتب الطبقات الاجتماعية. فالفئة الحاكمة تختلف من حيث اللغة والعرق، وأحيانا الدين، عن الطبقة التجارية التي تتمايز من حيث أصولها القومية عن المجموعات الأخرى كالفلاحين. ففي الإمبراطوريتين النمساوية والروسية كان التجار عادة من اليهود والألمان، وكانوا أساسا أرمينيين ويهودا ويونانيين في الدولة العثمانية. ولم تكن لتطمح أي من هذه القوميات لبناء كيان وطني مستقل، قبل موجة الحداثة الغربية الجارفة. فالوعي القومي كما يقول عالم الاجتماع  المعروف غلنر هو أحد المحددات الرئيسية لديناميكية التحديث. فالنمو الاقتصادي والاجتماعي يولد بذاته الوعي الخصوصي ويكرس عقلية الفردية والاعتماد على النفس، والدولة الحديثة عندما تخلق علاقة مباشرة بين الأفراد والحكومات تضعف الروابط التقليدية للوحدات الاجتماعية الوسيطة كالأسرة والملة، مما يولد فراغا شعوريا تسده النزعة القومية.

وإذا كان دعاة الليبرالية في القرن التاسع عشر قد راهنوا على غرار دعاة العولمة اليوم على قدرة التجارة الحرة في إضعاف القوميات وتكريس وحدة الإنسانية، إلا أن التجربة التاريخية أثبتت زيف هذه المصادرة. فبعد الحرب العالمية الأولى تشكلت عشرات الكيانات القومية في أوروبا الوسطى والشرقية على أنقاض الإمبراطوريات المنهارة، وبثمن باهظ في الغالب (الهجرة الإرادية والقسرية والتطهير العرقي). واستمر النهج بعد الحرب الثانية، وكاد يكتمل مسار التجانس القومي في القارة القديمة الذي لم تشذ عنه سوى بلدان ثلاثة هي روسيا ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا.

وبعد نهاية الحرب الباردة اكتمل المسار، إلا في بعض حلقاته الجزئية الملتهبة في صربيا.

وفي العالم الجنوبي حدث التفكك ذاته بعد رحيل الاستعمار الأوروبي، ومن أبرز تجلياته تفكك شبه القارة الهندية الى ثلاث دول قومية على أساس ديني وعرقي.

ويخلص مولر الى أن الباحثين في الشؤون السياسية والاجتماعية يميلون غالبا الى النظرة السلبية للتجزئة القومية، متناسين أنها كانت عامل الاستقرار الأساسي في أوروبا، وشرط التحول الديمقراطي فيها، مشددا على أن النزوع القومي مظهر من مظاهر التحديث وقوة دافعة له، ولذا من الطبيعي أن يتزايد تأثيره في بقية العالم. بل ان العولمة الجارية تؤجج هذا النزوع بدل التقليل منه، بما تطرحه من إشكالات تتصل بالهوية والخصوصية.

واليوم إذ تعرف مناطق واسعة من العالم أزمات تعايش حادة بين قوميات متصارعة، يغدو خيار التقسيم أكثر نجاعة وأقل تكلفة من التدخل العسكري الإنساني، ومن فظائع الاقتتال الأهلي ومجازر التصفية العرقية.

وكما يتضح فإن المقال يطرح رؤية استراتيجية جاهزة للتعامل مع إشكالات قائمة تهم محيطنا العربي الإسلامي كما سنبين في الأسبوع القادم بإذن الله.