تجربتي في مجلس الشورى 

TT

كنت قبل أن أشرف بالجلوس تحت قبة مجلس الشورى، وقبل أن اقتعد أحد كراسي قاعته، أجهل كثيراً ما يقوم به وما يقدمه المجلس للوطن سواء في الميدان التشريعي أو الميدان الرقابي، بل كانت الصورة مشوشة في ذهني من خلال بعض ما أسمعه واقرؤه ولأن الرؤية غير السماع رأيت بسمعي وعيني الدور البرلماني ـ استشارة وتشريعا ورقابة ـ الذي يؤديه المجلس بعيداً عن أي جلبة أو صخب أو تنظير «هلامي» كما يحدث في عديد من المجالس المماثلة في عالمنا العربي .

وهذا «المنجز» لمجلس الشورى لا يعني بالطبع أن هذا هو كل المطلوب منه.. بل أزعم أنه يتطلع إلى الكثير من الإنجاز والصلاحيات لكي يقوم بدور أكبر لخدمة هذا الوطن وخدمة مواطنيه الذين يمثلهم أعضاؤه ـ كما قال خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ في أحد لقاءاته بأعضاء المجلس عند افتتاحه إحدى سنوات المجلس الجديدة .

***

لقد كتبت بعد سنتين من التحاقي بالمجلس عن تجربتي بالمجلس وأشرت إلى أني كنت أسمع كثيراً عنه.. فمن قائل إنه مجلس «شكليّ» فقط لا دور كبيرا له.. ومن قائل إنه مجلس لا رأي للأعضاء فيه.. وكنت أسمع وأصمّ أذني لأني لا أعرف عما يدور في المجلس شيئاً!

أما الآن فقد أدركت ورأيت واقع وعمل ومداولات المجلس بكافة حواسي وليس عن طريق سمعي! وسوف أجسّد في هذه السطور ما رأيته وعشته ولا أكتم حقاً إن شاء الله .

لقد أدركت أن الشعارات شيء.. وأن الواقع شيء آخر .

لقد رأيت، في مجلس الشورى السعودي، رأي العين: «تعددية الرأي» و«الحرية في الطرح»، وارتباط الموضوعات المطروحة بالناس أنظمةً وقضايا، بل رأيت الجرأة  ـ في قول الحق ـ ولا يحكم ذلك إلا نبل الهدف، وموضوعية النقاش، ومصلحة الوطن بعيداً عن «المزايدات» التي تهدف إلى تلميع الشخص أو الحزب أكثر مما تهدف إلى نصوع الحق وجلاء الصواب.

لقد سمعت وقرأت ورأيت وحضرت تجارب برلمانية ـ وبخاصة في عالمنا الثالث ـ ورأيت فيها الكثير من اللغط والفائض من اللجج، والوافر من الجدال والحرية التي تصل إلى الفوضى.. بل إن بعض هذه المجالس ـ في عالمنا الثالث ـ أصبحت عبئاً على بلادها ومنظومة تطورها بدلاً من أن تكون عوناً لبلادها ومكتسباتها وسلطتها التنفيذية!

لقد تحولت بعض هذه المجالس في العالم الثالث إلى أماكن للجدال وأكاد أقول «الحراج» وأصبحت مواقع للخلاف بدل الاختلاف، وأضحت عوامل تثبيط وتأخير لمسيرة التنمية لديها، وقد قرأت الكثير من الطروحات في صحافة بعض تلك البلدان التي تنقد تجربتها البرلمانية لأنها لم تخدم مواطنيها، وذلك لأنها تظل سنوات طويلة في جدل عقيم لا تصل إلى رأي حول نظام أو إصدار تشريع أو قرار مما يُعطّل الأنظمة والمشروعات ويتسبب في الإضرار بالمواطن!

***

في «مجلس الشورى السعودي رأيت تجربة أخرى مغايرة .

تجربة يحكمها عند طرح الرأي أدب الاختلاف لا فوضوية الخلاف .

رأيت «الوطن» بكل ثوابته وقيادته وأبنائه حاضراً في كل نقاش أو اختلاف أو تصويت يدور تحت قبة المجلس الموقر.

في مجلس الشورى السعودي عند الاتفاق بالرأي أو في حالة الاختلاف يكون هناك انحياز ولكن انحياز لكامل الوطن.. لا لمصلحة حزب.. أو نفع قبيلة.. أو منفعة شخص .

إنك تتوجه لمختلف أطياف الوطن ومصلحتهم .

***

في مجلس الشورى السعودي ـ كما رأيت وعشت ـ لا أحد يفرض عليك ـ عند مداولاته ـ رأياً تبديه، أو يحول بينك وبين رؤية تعلنها ما دام الرأي والرؤية يلتزمان عند طرحهما بأدب الحوار، وفي النهاية الفيصل هو «التصويت» على «الرأي» أو «النظام» أو «القرار» أو «التوصية» وأمامك جهاز تضغط بـ«نعم» أو «لا» دون أن يتدخل حتى جارك الأدنى بموافقتك أو معارضتك، وعند النتيجة يفوز «القرار ذو الأصوات الأكثر عدداً» حتى ولو كان الفارق صوتاً واحدا!

إن هذا ـ في تقديري ـ يعطي الحرية المنضبطة التي تستهدف الحق ولا تتجه نحو الفوضوية الصاخبة التي يرتفع فيها اللجاج الأهوج، ويضيع الصوت الأصلح بدلاً من أن يضوع فيها الرأي الأصوب .

***

 في «مجلس الشورى» رأيت أن العضو يطرح الرأي الذي يقتنع به.. ويجهر بإبدائه لا يحكمه إلا مراعاة الله أولاً ثم مصلحة وطنه و«المستشار مؤتمن».

إن هذا الخطاب الشوري السعودي الهادف والهادئ معاً.. هو ما اخترناه وارتضيناه كسعوديين بدون أن ننازع الآخرين في خياراتهم .

حسبنا أن هذا الخيار هو الذي يتلاءم مع مجتمعنا، وهو الذي يوصلنا لـ«الغاية» التي نبحث عنها وليس من حق أحد أن ينازعنا فيما اخترنا.. كما أنه ليس من حقنا أن ننازع الآخرين فيما اختاروا!

***

ليس المهم الوسائل والأساليب، بل الأهم الوصول إلى الغايات المرتجاة ..

«إن العبرة بالنتائج» كما قال معالي رئيس مجلس الشورى الراحل الشيخ محمد بن جبير ـ رحمه الله ـ في حوار صحفي معه . إن المجالس في الدنيا كلها سواء كانت شورية أو برلمانية، كما كتب الكاتب المعروف د. عبد الله مناع «بصلاحيتها ـ أولاً ـ وليس بانتخابها أو تعيينها»

وكل أمة تختار الأسلوب الذي ترتضيه سواء كانت «شورية» أو «ديمقراطية»، وليست الأولى نقيضاً للثانية ، كما قال معالي رئيس مجلس الشورى الحالي د. صالح بن حميد في رأي موضوعي مستنير جاء في بحث منشور قال فيه :

«الديمقراطية ليست نقيضاً للشورى لكن لكل منهما مبادئه وأسسه وقواعده، وميدان الاجتهاد بالشورى يمكن من الاستفادة من الجديد النافع ولو كان وافداً أجنبياً، وذلك بعد النظر والاجتهاد والانسجام مع أحوال الإسلام وقواعده» ـ صحيفة «المدينة».

***

ولكل وطن أن يختار ما يناسبه .

ولكل أمة ثوابتها وظروفها واختياراتها .

وأية أمة من حقها أن تأخذ بالتجربة التي تراها .

***

ولعل من أهم دلائل نجاح تجربتنا الشورية والقناعة دولياً بها : الإجماع الدولي قبل عدة سنوات عند عرض موضوع انضمام مجلس الشورى إلى اتحاد البرلمان الدولي، لقد كانت الدول الممثلة بالبرلمان الدولي (180) دولة وافقت كلها على انضمام المملكة، ما عدا إسرائيل .

ولا أدعي ولا يدعي وطني أن هذه هي الآلية النهائية الأفضل لتطبيق منهج الشورى، فنحن وطن نسعى إلى الأمثل دائماً، ويحث خطاه ورؤاه ليأخذ بالأكثر جدوى منطلقاً من ثوابته، ومفيداً من نجاح تجارب غيره!

لكن ـ تجنباً لعثار الخطى ـ يأتي ذلك تدرجاً عبر وسائل متئدة رصينة تفضي إلى الهدف ولا تسقط في غمار المغامرة .

***

إنني لن أعدد منجزات المجلس لكن حسبه إصدار عشرات بل مئات الأنظمة المهمة التي تخدم حاضر المواطن وتستشرف مستقبله، وحسبه أنه أصبح «ذا دور رقابي» تحسب الجهات التنفيذية حسابه وهي تباشر تنفيذ أعمالها تجاه الوطن، بل كان للمجلس دور كبير في إنشاء واقتراح وزارات ومؤسسات وصناديق لم تكن موجودة. ومن يتابع قرارات مجلس الوزراء يجد ما يقارب 80% من قراراته إنما تصدر بناء على قرارات مجلس الشورى، وقد أعطى الملك عبد الله احتفاء واهتماماً كبيراً لقرارات مجلس الشورى عندما صدر الأمر الملكي بتعديل المادة (17) من نظام المجلس التي نصت: «أنه إذا وافق مجلس الوزراء على قرار مجلس الشورى تصدر القرارات بعد موافقة الملك، أما إذا لم يتفق المجلسان على أي قرار فيعود الموضوع لمجلس الشورى»، وفي الغالب يحيل القرار أو النظام المختلف عليه لمجلس الشورى ليبدي ما يراه بشأن الاختلاف مع ما أبداه مجلس الوزراء ويرفع ذلك إلى الملك لاتخاذ ما يراه .

***

نقطة أخرى جميلة ولعلها من الأشياء التي يفخر بها المجلس وهي : أن أعضاء المجلس يختلفون تحت قبة المجلس لكن من منطلق البحث عن الأصلح للوطن.. ولهذا لا تسمع تحت قبة المجلس كلمات تجريحية أو أساليب خلاف مرفوضة، بل إنهم يخرجون من المجلس الذي قد يكونون اختلفوا في طرح الآراء فيه متحابين متصافين، وهذا يبتعد بهم كما نرى في كثير من البرلمانات عن ثقافة الإقصاء والكراهية . أمر آخر: إن «مجلس الشورى» يعتبر أحد المؤسسات الوطنية المنفتحة جداً على «الإعلام» مرئياً ومقروءاً، حيث خصص شرفة تطل على قاعة المجلس ليدون ويكتب وينقل الإعلامي ما يشاهده ويراقبه بدون رقيب عليه أو تدخل في عمله، وهذا الأسلوب المنفتح على بوابات الإعلام وإن كان سبَّب شيئاً من الإحراج للمجلس في نقل بعض ما دار أو يدور في قبته إلا أن المجلس ورئيسه متمسكون بهذا الانفتاح الإعلامي، ولا تراجع عن هذه «الشفافية» وإن كان المجلس يدعو ويتمنى على رجال الإعلام الدقة في النقل والموضوعية بالعرض، والتركيز على ما يهم المواطن

مما يطرح تحت قبة المجلس، وليس على «هوامش» شكلية لا علاقة لها بصدور القرار أو النظام الذي ينتظره المواطن .

***

وبعد !

هذه هي «الشورى» التي اختارها لنا ربنا، وطبقتها قيادة وطننا، وارتضتها أمتنا.. وهي تجربة متميزة متفردة، إذ هي نابعة من تعاليم خالق البشر الذي هو أدرى بكل ما يهدف إلى سعادة الفرد ورقي الأمة .

* عضو مجلس الشورى السعودي