الجنادرية وجديدها التركي والفلسطيني

TT

تعيش الرياض دائما وهي على موعد مع مهرجان الجنادرية. مهرجان التراث والثقافة. أما هذا العام فقد كانت على موعد مع ثلاثة أحداث ثقافية متزامنة: الجنادرية، ومعرض الكتاب، وجائزة الملك فيصل. وكل واحد من هذه الأحداث كان له ضيوفه وزواره ومريدوه، وحدث أن تداخل الضيوف والزوار والمريدون، وحدث ازدحام ثقافي يكاد يشبه ازدحام شوارع الرياض الذي بات ظاهرة يحسب لها الناس ألف حساب في عملهم وتجوالهم.

الذين زاروا معرض الكتاب دهشوا من كثافة الزوار والمشترين، كانوا يحتشدون رجالا أو نساء، لا يشترون الكتب بل يغرفونها غرفا، وكان هؤلاء المشترون هم العلامة البارزة في المعرض، حتى أن الناس أخذوا يتندرون قائلين إنه آن الأوان لكي يتوقف الناشرون عن الشكوى من سوء بيع الكتاب العربي، شريطة أن يكون ذلك مقدمة لكي ينال المؤلفون حقوقهم المالية الحقيقية.

ولم يخل معرض الكتاب من انتقادات وملاحظات سلبية، تركزت على منع ومصادرة بعض الكتب، مع عقد مقارنات تقول إن معرض العام الماضي كان أكثر تسامحا في إجازة عرض وبيع الكتب «الممنوعة». ولكن الملفت للنظر أن الذين أثاروا هذه الملاحظات وأبرزوها هم الإعلاميون السعوديون أنفسهم، بينما كانت الأمور تجري في السابق خفية ومن وراء ستار. وإذ تركزت كثير من الملاحظات حول دور وزارة الإعلام في المراقبة والسماح والمنع، فقد كانت ظاهرة ملفتة، أن يقف وزير الإعلام إياد مدني ليتلو على ضيوف مهرجان الجنادرية في حفل استقباله لهم، نصوصا كاملة من انتقادات الصحف لوزارته، ملمحا دون تصريح إلى درجة من حرية النقد لم تكن متوفرة من قبل في الإعلام السعودي، وملمحا دون تصريح إلى تقبل المسؤولين لهذا النقد، وهو أيضا أمر لم يكن متوفرا في السابق.

أما جائزة الملك فيصل، والتي كانت بحق مناسبة لاحظ من خلالها الجميع، كيف أن هذه الجائزة قد رسخت نفسها كجائزة مرموقة على الصعيد العالمي كله، تتمتع بمواصفات علمية صارمة، وتحظى نتيجة لذلك بالتقدير والاحترام.

ولكن ذروة النشاط الثقافي في الرياض كانت في مهرجان الجنادرية، هذا المهرجان المميز الذي خطط له ورعاه جلالة الملك عبد الله منذ أن كان وليا للعهد، وأسند مهمة الإشراف عليه إلى رجل مميز أيضا هو الشيخ عبد العزيز التويجري، الذي استطاع بحنكته ودرايته أن يجعل من هذا المهرجان منارة ثقافية عربية، ومنطلقا لتكريس منطق الحوار، الذي بدأ حوارا عربيا ـ سعوديا، وتواصل ليصبح حوارا سعوديا منظما تشارك به أطياف عديدة من المجتمع المدني السعودي. لقد تواصل مهرجان الجنادرية وهو يحمل بصمات الشيخ التويجري، ولكن المفاجأة كانت، أنه بعد رحيل الشيخ التويجري إلى عالم البقاء، استمرت بصماته حاضرة في مهرجان الجنادرية حتى بعد غيابه، ففي حفل الافتتاح منحه الملك عبد الله وساما تكريميا، وفي ندوة الجنادرية الثقافية، انعقدت ندوة متخصصة لتكريمه كرجل العام الثقافي. ومن خلال معرض الصور الذي رافق ندوة التكريم، اكتشف الناس جانبا آخر من جوانب شخصية الشيخ التويجري، هي شخصية «السياسي» وشخصية «رجل الدولة». وكثيرون ممن حضروا الندوة، وكثيرون ممن زاروا معرض الصور، لم يكونوا يعرفون بقدر كاف هذا الجانب من شخصية الشيخ، وإذا بهم أمام رجل قد طاف العالم العربي، ثم طاف في العديد من عواصم العالم، في مهمات سياسية خاصة، لم تكن معروفة للإعلام من قبل، وكان الشيخ متكتما دائما في الحديث عنها. وحين اقتنع الكثيرون أن الشيخ الراحل هو رجل فكر وثقافة وحوار من الطراز الأول، فإذا بهم يكتشفون أنه كان أيضا وبالمقدار نفسه رجل سياسة ورجل دولة. وربما لاحظ من زاروا معرض الصور هذا أن الشيخ الراحل كان على صلة مع كل زعيم عربي عاش تلك الفترة نفسها، ومع كل زعيم دولي كانت له صلات مع المملكة. وجدير بالذين كتبوا عن الشيخ ودوره الثقافي، وهم كثر، أن يلتفتوا إلى هذا الجانب الآخر في شخصيته، ليوفوه حقه من البحث والتقييم والتقدير.

ولقد سمعت في السعودية، وبخاصة من المثقفين السعوديين، نقدا لمهرجان الجنادرية، يتركز حول التكرار، وحول ضرورة التجديد في بنيته ومهماته. وهو نقد محق يستحق عناية الذين يشرفون على التخطيط له كل عام. ولكننا نلاحظ رغم ذلك أن جنادرية هذا العام تميزت بحدثين مهمين يشكلان إضافة نوعية للمهرجان:

الحدث الأول: هو تخصيص ندوة للبحث في العلاقات العربية ـ التركية اقتصاديا وثقافيا. وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها اختيار بلد إسلامي ليكون نافذة من نوافذ انفتاح الجنادرية على العالم الإسلامي. لقد تمت سابقا دعوة شخصيات فكرية وثقافية عالمية لتحاضر أو تحاور، ولكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تخصيص ندوة عن بلد محدد، وليس صدفة أن هذا البلد هو تركيا، البلد الإسلامي، والبلد المجاور للبلاد العربية.

وقد شهدت كواليس الجنادرية مناقشات عديدة حول معنى هذه الدعوة ودلالاتها، وكان هناك من قال بأن التطلع نحو رؤية استراتيجية إلى مستقبل المنطقة العربية، رؤية استراتيجية تتجاوز كل ما هو سياسي آني، سواء كان تلاقيا أو اختلافا، لا بد من أن يستنتج أن المنطقة تتكون من ثلاث قوى أساسية هي: العرب، وتركيا وإيران، وتتجاور هذه القوى جغرافيا، ويجمع بينها بعد حضاري واحد يتمثل في الحضارة الإسلامية، وهي ثلاث قوى، تستطيع أن تشكل من خلال علاقات حسن جوار، حسن جوار في الحد الأدنى، قوة إقليمية، تصد على الأقل، هجمات دولية كثيرة طامعة، لتوفر مناخ استقرار وهدوء للمنطقة كلها. وساد في كواليس الجنادرية أيضا، أن مبادرة دعوة تركيا لن تكون الأخيرة، وإنما هي مقدمة لندوات أخرى، مع دول إسلامية أخرى.

الحدث الثاني: تمثل في الندوة الفلسطينية التي دعيت لها شخصيات مميزة (الشيخ عكرمة صبري، الدكتور مصطفى البرغوثي، شفيق الحوت، أسمه حمدان)، وبحثت في (الوضع الفلسطيني واقتتال الإخوة). لقد تجنبت الجنادرية دائما الندوات السياسية المباشرة، ولذلك فإن هذه الندوة كانت حدثا. وزاد في اهميتها الجمهور الفلسطيني المكثف الذي سعى إلى حضورها إضافة إلى الجمهور السعودي . وكعادة الفلسطينيين فقد نقلوا حرارة مواقفهم وخلافاتهم وحدتها إلى قاعة الندوة. وبينما اتسم المحاضرون بالرصانة في عرض المواقف والخلافات، مؤكدين أهمية الحوار والتلاقي والتفاهم، باعتبار ذلك مصلحة فلسطينية ضرورية، إلا أن الجمهور الفلسطيني تجاوز تلك الرصانة، فكان يصفق بقوة تأييدا لموقف لصالح هذا التيار الفلسطيني، ثم يصفق بقوة تأييدا لموقف لصالح التيار الآخر، ولكن التصفيق الحار كان دائما لصالح الموقف الذي يدعو للحوار والتفاهم.

قال الجمهور السعودي بعد الندوة، إن الندوة الفلسطينية كانت بحق ندوة حارة وحيوية، وما نتمناه هو أن تتصف ندوات الجنادرية كلها بهذه الصفات.

ونختم بقصة حول هذه الندوة فيها مرارة وألم، رواها لنا أحد المشاركين في إعداد ندوات الجنادرية، قال: لقد تم إدراج هذه الندوة في البرنامج عندما حدث الاقتتال الأول في غزة بين الأطراف الفلسطينية. وحين تم إنجاز اتفاق مكة وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، تم حذف هذه الندوة من جدول الأعمال. ولكننا عدنا إلى إدراجها، وبكل أسف، بعد أن وقع ما وقع في غزة من حسم وتغيير. وختم قائلا: نتمنى أن لا يكون لمثل هذه الندوة مكان في مهرجان الجنادرية القادم.

عنوان فرعي: