السباحة في بحر الفضائيات العربية!

TT

ربما كانت الصدفة وحدها هي التي جعلت وزراء الإعلام العرب يطلقون وثيقتهم الشهيرة حول تنظيم حرية القنوات الفضائية العربية في ذات الوقت الذي دخلت فيه القناة البريطانية الشهيرةBBC إلى الخدمة لكي تنضم إلى قائمة طويلة من القنوات الأجنبية الناطقة باللغة العربية كان منها خلال الفترة القصيرة الماضية قناة «روسيا اليوم» الروسية، و«24 ساعة» الفرنسية، و«الحرة»الأمريكية، وDW الألمانية، بالإضافة إلى قناة إيطالية لا تزال في مرحلتها التجريبية وتبث ساعتين ونصف الساعة يوميا. وفي الواقع فإن هناك قنوات أخرى ناطقة باللغة العربية لا يعرف مصدرها تحديدا ولكنها بارعة في مجال المنوعات وأمور أخرى غير فاضلة. ولعل ذلك هو المقدمة فقط التي سوف يتلوها انهمار شلال من الفضائيات الجديدة، فلو أخذنا بمقياس الإذاعة فقد كان هناك في منتصف الثمانينيات حوالي 250 محطة إذاعة ناطقة باللغة العربية في العالم على الموجات القصيرة، وتقدمها دول كبيرة مثل البرازيل والهند والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأمريكا بالطبع، ودول صغيرة مثل هولندا وحتى ألبانيا الشيوعية للغاية. وفي دراسة صدرت في ذلك الوقت لباحث أمريكي فقد جاء فيها أن اللغة العربية هي اللغة الثانية بعد الإنجليزية على موجات الأثير العالمية. ومعنى ذلك أن وثيقة الجامعة العربية قد صدرت في الوقت الذي تكفلت فيه الأوضاع العالمية بإبطال أي مفعول لها لأن كل العالم تقريبا مهتم الآن بالحديث باللغة العربية وللعالم العربي تحديدا. ومن غير المفهوم لماذا لا يكون مثل هذا التركيز على اليابان مثلا وهي تمثل القوة الاقتصادية الثانية في العالم وبناتج محلي إجمالي قدره 4.34 تريليون دولار أو ما يزيد على أربعة أمثال الناتج المحلي الإجمالي العربي رغم أن عدد سكانها يشكلون ثلث الناطقين بالعربية؟ ومن غير المفهوم أكثر لماذا لا يكون التركيز واقعا على الصين أو الهند وعدد سكانهما معا يصل إلى 40% من سكان الكرة الأرضية، ولديهما معا أكثر من ضعف معدلات النمو في العالم العربى، ولو استبعدنا النفط فلن يوجد شيء في المنطقة العربية يستحق المقارنة مع بقية دول العالم؟

ومع ذلك، وكما كان الحال مع الإذاعة، فإن دول العالم المختلفة سوف يكون لها فورا أو في القريب العاجل رسالة أو رسائل إعلامية قوية إلى العالم العربي عبر عشرات من القنوات الفضائية التلفزيونية. وهذه القنوات جميعها سوف تستفيد من التطورات التكنولوجية الضخمة الجارية هذه الأيام والتي ستجعل الوصول إلى البيوت العربية أمرا حتميا سواء أراد ذلك وزراء الإعلام العرب أم لم يريدوا. وتدريجيا فإن عبارات مثل ازدراء الأديان وإهانة الشخصيات العامة أو التقليل من شأن المقدسات سوف تفقد معناها على أرض الواقع ليس لأن الإعلاميين في هذه المحطات يرغبون في كل ذلك وإنما لأن لديهم تعريفات مختلفة لها، ولأنهم يرون الحديث عنها هو في الواقع للتغطية على أشكال مختلفة من الديكتاتورية والاستبداد بالرأي؛ والأهم من ذلك كله، ومن الناحية المهنية البحتة، رفض مناقشة موضوعات حيوية لا يقترب منها الإعلام العربي العام والخاص لأنها تشكل مساساً بالمقدسات أو بالتقاليد. فلما كانت وظيفة الإعلام هي البحث عن الغرف المغلقة في حياة الشعوب والأمم وفتحها على مصراعيها، ولما كانت مهمته هي البحث عن الحقيقة فإن الحقيقة تكون في بعض الأحيان صعبة ومرة وثقيلة وجارحة.

وعندما اجتمع وزراء الإعلام العرب لم يكن في أذهانهم بالطبع إلا الفضائيات العربية التي تجاوز عددها الآن 400 محطة وما يجري فيها من أجواء متوترة في الأمور السياسية وحرجة في الأمور الدينية وحساسة في الأمور الاجتماعية. وبالتأكيد فقد كان وجود توافق عربي على وثيقة في الشأن الإعلامي نجاحا يحسب للوزراء في وقت عز فيه الاتفاق العربي على أمور كثيرة حتى أن نجاحهم يكاد يناطح ما هو معروف من نجاح لدى وزراء الداخلية العرب في أمور لا تقل أهمية. وبالتأكيد أيضا فإنه لن يوجد بين العاملين في الإعلام من يريدون الخوض في الأمور التي يرفضها ويستنكرها رجال السلطة ولكن المسألة كما كانت دائما هي أن الشيطان يكمن دائما في التفاصيل وفي التعريفات وفي طريقة الحكم على الأمور. والآن أضيف العالم الجديد الذي سوف يجعل الفضائيات العالمية تزيد على عدد الفضائيات العربية خلال سنوات قليلة، وللأسف فإن محطة BBC لا تخضع بالضرورة لأقمارنا الصناعية، وحتى هذه اللحظة فإنه لا بريطانيا ولا فرنسا ولا روسيا ولا ألمانيا قد أصبحوا أعضاء في الجامعة العربية.

المسألة الحقيقية في الموضوع هي أنه لم يحدث في التاريخ أن نجحت سلطة في تقييد فكر دون توافر قدر غير قليل من الرضاء العام والاقتناع الذاتي من المواطنين لما يعتبرونه قيما عليا تستحق المحافظة عليها. وفي الوقت الحالي وقبل تطبيق وثيقة الجامعة العربية فإن المواطنين يقومون وحدهم ودون مجالس عليا قومية أو وطنية بعملية المراقبة لما يشاهدونه ولما لا يريدون لأولادهم مشاهدته؛ ويحدث ذلك من خلال مجموعة من القيم المتوافق عليها والتي لا تحتاج لمعلم إضافي. وفي المجتمعات الأخرى فإن عملية تنظيم هذه العملية جاءت أولا من خلال الجمعيات الأهلية والتجمعات الفرعية التي أخذت المبادرة لطرح معايير التقييم، وكانت هي التي رفعتها عندما وجدتها عائقا أمام عملية الحصول على المعرفة. وفي كل الدنيا فإن الحقيقة المعروفة هي أن فتح النوافذ سوف يدخل الهواء والضوء والمعرفة بما يجري في الخارج، وأحيانا سوف يكون كل ذلك مصحوبا ببعض الغبار. والمسألة ببساطة هي أن القضية لها أوجه كثيرة، ولا يوجد هنا اعتقاد بأن وزراء الإعلام لديهم سوء نية لإغلاق النوافذ والأبواب وقفل باب الحريات العامة للرأي والتعبير كما يقول المعارضون؛ كما لا يوجد اقتناع هنا أيضا أن الجماعة الإعلامية العربية قد انفلت عيارها وباتت نيتها مبيتة على الازدراء والإهانة للأديان والقادة والقيم والتاريخ كما يعتقد من هم في السلطة. فحجم الحريات العامة لا يزال محدودا، وقدرة المؤسسات على التغيير في حياة الناس لا تزال في أول الطريق، وبشكل من الأشكال فقد أخذ الإعلام وظائف الساسة ومعهم أحيانا وظائف البيروقراطية ورجال الأمن القومي. ومن ناحية أخرى فإن العالم العربي جزء أساسي من العالم، وما لم يذهب العرب إلى العالم فسوف يجيء العالم إليهم كما حدث أحيانا بالجيوش، وأحيانا أخرى بالمحطات الفضائية، وكلاهما يشكل تحديا لوزراء ورجال الإعلام معا.

فلأسباب كثيرة لا تخفى على أحد ولكن تلخصها كلها أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما تلاها من أحداث على امتداد العالم كله فإن العالم العربي بات مشكلة عالمية وليس فقط مشكلة أمريكية أو بريطانية. وهي مشكلة ليست متعلقة بمعدلات نمو مرتفعة مثلما هو الحال مع الصين أو تفوق تكنولوجي في مجال من المجالات كما هو الحال مع اليابان أو حتى مشاكسات قومية كما هو الحال مع شافيز في فنزويلا، ولكنها مشكلة متعلقة بحالة «السوفت وير» أو البرامج المشغلة للعقل العربي. فهناك في العالم الغربي والشرقي معا قناعة أن هناك خللا ما في هذه البرامج ونتج عنها مدرستان للتعامل معها: أولها محاولة فك شفرة هذه البرامج للتعامل معها من خلال المعرفة والتفاعل وحوار الحضارات؛ وثانيها محاولة زرع برامج جديدة أو عرض برامج أخرى كما يحدث في الأزياء وكرة القدم فربما يجد العرب ما يعجبهم ويجعلهم يفكرون كما يفكر العالم!