ذكريات حرب لا تزال مستمرة وتجربة فضائية نجحت بأعجوبة!!

TT

اليوم، الخميس، تكون قد مرت على حرب احتلال العراق، أو حرب الخليج الثالثة كما يحلو للبعض أن يصفها، خمسة أعوام، ولعلّ من الضروري وربما المفيد في زحمة كل ما قيل وكلّ ما يُقال وما سيُقال حول هذه الحرب، التحدث عن تجربة فضائية هي فضائية «العربية»، التي كانت في سباق مع الزمن عشية العشرين من مارس (آذار) عام 2003، والتي لم تنطلق إلا قبل نحو أسبوع من هذا التاريخ، وبينما الفضائيات الأخرى «المنافسة»، كانت قد نزلت إلى الميدان مبكراً وحظيت بتسهيلات من السلطات العراقية السابقة، ومن وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف تحديداً، قد حُرمت منها هذه الفضائية الوافدة والجديدة.كانت التقديرات عندما بدأت التحضيرات والاستعدادات لإطلاق «العربية»، وأخصّ بالذكر هنا وليد الإبراهيم، الذي أعلن حالة الاستنفار القصوى مبكراً، أنها إن لم تنطلق قبل اندلاع هذه الحرب التي كانت نذرها تقتحم العيون والأنوف والقلوب والعقول، فإنها ستكون كمن يذهب إلى العرس متأخراً، وكمن يقصد قرية لمعايدة أهلها ولم يصلها إلا بعد أن أصبح العيد مجرد ذكريات قديمة وبعيدة.

في تلك الفترة الصعبة، حيث كان الفشل والنجاح يقفان على خط واحد، وكتفاً إلى جانب كتف، أظهر وليد الإبراهيم براعة مُدهشة في إدارة فريق إعلامي وفني محترف ومبدع على رأسه علي الحديثي، ويضمّ أسماء عدد من الذين تجاوزوا مرحلة النجومية بفراسخ، من بينهم نخلة الحاج وفادي إسماعيل وصلاح نجم وحسن معوض وفراس نصير وآخرون استميحهم العُذر إن لم أذكر أسماءهم.

كان الطاقم الفني يصل الليل بالنهار لتصبح «الاستوديوهات» وغرف السيطرة جاهزة قبل أن تقع مفاجأة الحرب، وكانت المشكلة الكبرى التي واجهت الجميع هي كيفية الوصول بالأجهزة والمعدات وبالقوى البشرية إلى ميدان المعركة في العراق قبل وصول القوات الأميركية والقوات المتحالفة معها إليه، ولعل ما زاد الأمور تعقيداً على هذا الجانب، أن المعلومات التي كانت تصل من المصادر المهمة جداً كانت متضاربة ومختلفة، فقد كان هناك مَن يقول إن الاختراق الأساسي للأراضي العراقية سيبدأ حتماً من جبهة الجنوب ومن محور صفوان ـ البصرة تحديداً، بينما يقول آخرون بل إن هذا الاختراق سيكون من الشمال، ومن فوق جسر معبر إبراهيم إلى الغرب من مدينة زاخو، التي تقع تحت السيطرة الكردية، مع إسناد بوحدات المغاوير والقوات الخاصة وابرار جوي مكثف عبر الجبهة الغربية.

وهذا معناه أنه كان على الفضائية الجديدة قبل أن تُعلن انطلاقتها أن تضمن حضوراً مسبقاً بالأجهزة الفنية والقوى البشرية المسؤولة عن هذه الأجهزة وبالمراسلين الشجعان المبدعين، في بغداد أولاً وعلى هذه المحاور كلها، وفي منطقة كردستان العراق التي كانت التقديرات العسكرية تشير إلى أنها ستكون واحدة من أهم خطوط التحركات العسكرية في اتجاه الموصل وكركوك وبعقوبة وصولاً إلى أطراف منطقة الأنبار التي كانت إلى قبل فترة قصيرة أصعب منطقة بالنسبة للقوات الأميركية.

لا مستحيل عندما تكون هناك إرادة قوية وعندما يكون هناك تصميم على النجاح وعندما تتوفر إلى جانب هذا كله سِعة أفق على مستوى القيادة، التي مثّلها حقاً وليد الإبراهيم، بمساعدة فعلية من علي الحديثي والمجموعة التي يمكن وصفها بأنها كانت تشكل هيئة أركان هذه القيادة، وعندما تكون الإمكانات المالية متوفرة.. وهكذا فقد كان المراسلون كلهم ومع أجهزتهم الفنية في مواقعهم على الجبهات كلها، على الجبهة الشمالية في منطقة «سلوبي» التركية على بُعد كيلومترات قليلة من مدينة زاخو ومعبر إبراهيم الخليل، وعلى الجبهة الغربية في منطقة الحدود الأردنية ـ العراقية، وعلى جبهة الجنوب في منطقة العبدلي وصفوان بالقرب من الحدود الكويتية. كان يجب إيصال دعم بشري وفني، بالصحافيين وأجهزة الإرسال المباشر، إلى بغداد قبل اندلاع الحرب لدعم وإسناد مراسلي الـ «بي. بي. سي» السابقين، هديل الربيعي وصباح ناهي.كانت فترة في غاية الصعوبة، ولقد عمل سعد السيلاوي وعلي نون اللذان تناوبا على تغطية الحرب وتطوراتها وويلاتها من بغداد في ظروف قاسية جداً، لكنهما، وهذه شهادة حق، استطاعا من خلال روح المغامرة وحتى حدود التهور ومن خلال الحرفية الممتازة، أن يضيّقا الهوّة بين «العربية» الوافدة والجديدة، وبين الفضائيات التي تكبرها عمراً والتي سبقتها إلى الميدان بفترة طويلة واستطاعت من خلال الأموال التي أنفقتها ببذخ وبكرم زائد عن الحدود وزائد عن اللزوم، أن تركز «كاميراتها» في كل المواقع، وأن توصل مراسليها إلى كبار المسؤولين العراقيين السابقين وإلى المناطق العسكرية والأمنية والرسمية المحرمة والممنوعة.

لقد كانت الصعوبة الأولى التي واجهتها «العربية» على الجبهة الجنوبية التي كانت هي الجبهة الرئيسية، أن طاقمها بمجرد عبوره الحدود الكويتية ـ العراقية، قد وقع في شرك عصابة من تجار الحروب، حيث قامت بمصادرة سيارة هذا الطاقم وأجهزته الفنية و«كاميراته» التي تبلغ أثمانها مئات الألوف من الدولارات، والتي لم يكن بالإمكان تعويضها بسرعة وسهولة في ظروف الحرب والقتال والتحركات العسكرية وفي أوضاع أمنية في غاية الصعوبة والقسوة.

كانت تعليمات وليد الإبراهيم، الذي كان في تلك الأيام الحاسمة يشبه قبطاناً يتابع تحركات قطع أسطوله البحري المنتشرة في أحد بحور الظلمات، واضحة وصريحة وعنوانها «نفِّذ ثم ناقش»:

أولاً: يجب العمل بمهنية وبدون أي انحياز، فالمشاهد يريد الحقيقة، كل الحقيقة، وعلينا أن نتجنب المبالغات إن في هذا الاتجاه أو في الاتجاه المغاير.. قد تكون لبعضنا مواقف مؤيدة لصدام حسين ولنظامه، لكن «العربية» يجب أن تقوم بواجبها كوسيلة إعلامية غير منحازة.

ثانياً: يجب الابتعاد عن بث المشاهد البشعة التي تجرح ضمائر المشاهدين، ويجب عدم أخذ روايات أي طرف على عِلاّتها ومن دون التدقيق فيها، فالإعلام هو جزء رئيس من الحرب والمؤكد أن الطرفين المتحاربين سيمارس كلّ منهما كل أشكال الألاعيب الإعلامية المعروفة خلال الحروب، ولذلك فإن عين «العربية» يجب أن تكون يقظة وعليها أن تدقق في كل شيء.

لقد كان هذا هو موقف «العربية»، التي أتمّت العام الخامس من عمرها قبل أيام، وهو موقف بمقدار أنه عرّضها لغضب الأميركيين وجماعة صدام حسين، على حدٍّ سواء، فإنه كان سر نجاحها المبكر، وكان هو سبب فوزها بهذا السباق الفضائي «الماراثوني» بكل هذه السرعة.. وهنا، فإنه لا بد من الإشارة إلى الدور الذي لعبه الجرحى في النهاية لا بد من إيراد ملاحظة، كان القائمون على «العربية» قد توقفوا عندها طويلاً قبل يوم «الانطلاقة»، وهذه الملاحظة هي أن المعلومات التي كانت تصل تباعاً من بغداد كانت تُشير إلى أن كبار المسؤولين العراقيين كانوا، حتى بعد تحرك القوات الأميركية والقوات المتحالفة معها عبر خطوط الاجتياح، غير مصدقين أن الحرب ستقع وأن العراق سيُحتل، وكان صدام حسين يعتقد أنه بعد بدء المعركة بأيام سيجري تدخل دوليّ على غرار التدخل الدولي خلال حرب السويس في عام 1956، وأن تسوية ستتم على غرار تسوية تلك الحرب، وأنه سيكرر تجربة جمال عبد الناصر وسيعلن انتصاره على الغزاة.. وسينصِّب نفسه زعيماً للأمة العربية من «الخليج الثائر! إلى المحيط الهادر»!!.