إيران.. وسياسة المحادثات غير المشروطة

TT

تحدث إلى أيِّ شخص في واشنطن، هذه الأيام، عن السياسة الخارجية، ومن المرجح أن تسمع أن إيران هي «المشكلة الدولية» الأولى بالنسبة للولايات المتحدة. ويجمع السياسيون والمحللون على ان التعامل مع الجمهورية الإسلامية سيصبح القضية الرئيسية لانتخابات الرئاسة القادمة.

والسؤال هو: ماذا نفعل بخصوص إيران؟

من الواضح ان القيادة السياسية في طهران، التي تعزز موقفها بسبب نتائج الانتخابات البرلمانية في الأسبوع الماضي، ليست على استعداد لتقديم تنازلات. وإن الاختيار الذي يواجه أصحاب القرار هو بين الوقوف في وجه الجمهورية الإسلامية، حتى اذا كان ذلك يعني النزاع العسكري، والاعتراف بحقها في اتباع ما تراه من السياسات حتى لو كان ذلك يعني تهديد المصالح الحيوية للديمقراطيات الغربية وحلفائها الإقليميين.

ولتجنب ذلك الاختيار، أعلن السناتور باراك اوباما، المرشح المتقدم لاختيار مرشح الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة انه اذا ما نجح في الانتخابات سيدعو رئيس الجمهورية الإسلامية محمود احمدي نجاد إلى «محادثات غير مشروطة».

ويعني ذلك أن اوباما سيلغي سياسة بوش بخصوص إيران ويتجاهل قرارات تم الموافقة عليها بالإجماع في مجلس الأمن تدعو الجمهورية الإسلامية إلى وقف تخصيب اليورانيوم كشرط مسبق للمحادثات. وفي الأسبوع الماضي، دعا هنري كيسنجر، مستشار الشؤون الخارجية للسناتور جون ماكين، المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة، إلى محادثات غير مشروطة مع طهران. وبعد أيام من تغيير موقف كيسنجر، أعلن ان الأدميرال وليام فالون قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط، استقال لأنه يختلف مع سياسة الإدارة بالحفاظ على البديل العسكري ضد الجمهورية الإسلامية قائما.

ويتردد أن فالون عارض خطط اعتراض السفن الإيرانية المشتبه في نقلها منتجات ذات استخدام مزدوج. وطالب الأدميرال من قيادته السياسية التفكير في إجراء محادثات مع طهران. ثم جاء دور دنيس روس، وسيط السلام السابق في الشرق الأوسط، للدعوة إلى محادثات غير مشروطة مع طهران. واقترح روس زيادة العقوبات ضد طهران بمساعدة الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، في الوقت الذي تجري فيه المحادثات. ولتحقيق ذلك اقترح تقديم تنازلات لروسيا تشمل إلغاء الخطط الأميركية بوضع صواريخ مضادة للصواريخ في بولندا وجمهورية التشيك. (يحصل الاتحاد الأوروبي والصين على تنازلات غير محددة من الولايات المتحدة مقابل عقوبات أكثر تشددا ضد إيران). كل هذا الحديث عن محادثات مع طهران ربما يبدو معقولا.

إلا انه إذا ما تجاهلنا اقتراحات روسيا الغريبة بجعل إيران أكثر غضباً بفرض عقوبات أكثر تشددا في الوقت الذي ندعوها فيها للتفاوض، فإن فكرة «الحديث مع إيران» تثير الكثير من المشاكل لأسباب أخرى.

أول هذه المشاكل هي تحديد مضمون المحادثات. فالجمهورية الإسلامية لم تقل قط إنها ليست على استعداد للتفاوض. فقد شاركت في حوار مع الاتحاد الأوروبي منذ عام 1980 وتحافظ على علاقات ودية مع العديد من الدول الأخرى، من بينها روسيا والصين. كما عقدت محادثات سرية مع الولايات المتحدة، في اعوام 1979 و1985 و1986 وفي الآونة الأخيرة عامي 1999 ـ 2000، بالإضافة إلى لقاءات علنية بخصوص أفغانستان والعراق عامي 2002 و2007.

الشيء الوحيد الذي ليست على استعداد للحديث عنه هو وقف برنامج تخصيب اليورانيوم كما يطالب مجلس الأمن.

ولتجنب هذه العقبة، يقترح بعض المدافعين عن «الحديث مع إيران» عدم الإشارة إلى موضوع تخصيب اليورانيوم. وبدلاً من ذلك ومثلما صاغها كيسنجر، على الولايات المتحدة وحلفائِها أن يطلبوا من إيران إزالة الجانب العسكري لبرنامجها النووي، وبهذه الطريقة تتمكن من إقصاء حقها في تطوير أسلحة نووية.

والمشكلة هي أن الجمهورية الإسلامية لم تعترف يوماً بأن برنامجها يتضمن صنع قنبلة نووية. وما يطلبه كيسنجر هو أن يعترف قادة طهران أنهم كانوا يكذبون طوال الوقت، وأنهم كانوا قد وضعوا خططا لصنع القنبلة النووية لكنهم الآن غير مستعدين للقيام بذلك. هل يتوقع كيسنجر حقا أن يعترف «المرشد الأعلى» علي خامنئي بأمر من هذا النوع. وحتى إذا كان قادة طهران على استعداد للاعتراف بأنهم كانوا يكذبون وأنهم سيزيلون برنامجاً ظلوا يزعمون بعدم وجوده، فإنهم قد يجدون من الصعب أن يقدموا تعهدا مثلما طلب كيسنجر وآخرون منهم.

لماذا يجب أن تصبح إيران البلدَ الوحيدَ في العالم الذي يتخلى عن حقه في تطوير أسلحة نووية؟ إذ أن امتلاك تكنولوجيا تساعد على إنتاج أسلحة نووية، ليس إجراء غير شرعي بل حتى لو كان الأمر يتعلق بنشرها. وكانت بلدان مثل الأرجنتين والبرازيل وجنوب أفريقيا وأوكرانيا وكازاخستان وآخرها ليبيا، قد تخلت طوعا عن برامجها النووية العسكرية. مع ذلك فهذه الدول لم تتخل عن حقها إلى الأبد ويمكنها أن تقرر تجديد برامجها النووية في أي وقت تشاؤه.

بصيغة أخرى، يقترح الفريق المطالب بالتحدث مع طهران أن تبادر الأخيرة بالقيام بشيء لا يمكن أن تقوم به حكومة تحترم نفسها.

وقد يكون ممكنا إقناع طهران بأنها حققت الانتصار وأنها تستطيع تجاهل قرارات مجلس الأمن الدولي الثلاثة من دون أن تتعرض لأي مخاطر. ففي نهاية المطاف، تعني المحادثات غير المشروطة أن القوى العظمى قد أسقطت طلبها من إيران أن تعلق تخصيبها لليورانيوم قبل البدء في مفاوضات جوهرية حول العلاقات المستقبلية معها. كذلك قد تقدم طهران بعض التنازلات في جملة قضايا، مثل التضحية بحزب الله وحماس بل وحتى سورية مقابل قبول ضمني بطموحاتها النووية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها. وهذا ما سيضع المفاوضين الغربيين في مأزق: منح طهران جائزة مقابل تنازلات ضئيلة وقابلة للنقض من الطرف الإيراني. بإمكان إيران أن تفعّل أو تجمّد بيادقها المتمثلة في سورية وحزب الله وحماس مثلما فعلت مع مقتدى الصدر في العراق. مع ذلك، فإنه حالما تمتلك طهران القنبلة النووية لن يكون بإمكان أي طرف أن يعيد الجن إلى الزجاجة. الطريقة الوحيدة التي ستتخلى إيران وفقها عن طموحاتها النووية هي حينما تدرك أن تكاليف صنع القنبلة ستكون أعلى بكثير من حيث المعاناة الاقتصادية والعزلة السياسية أو الهزيمة العسكرية.

وبالنسبة لطهران، فإن صيغة المفاوضات غير المشروطة هي شكل من استسلام القوى الغربية لها. ويمكن أن تقوي أكثر العناصر راديكالية داخل النظام الذين سيرفضون منتقديهم الإيرانيين باعتبارهم جبناءَ.

هناك مشكلة أخرى أكثر أهمية مع سياسة المحادثات غير المشروطة تتمثل في أنه في حالة فشلها فإنها ستقنع طهران بتقديم تنازل وحيد هو إيقاف استخدام المواد الخام لصنع القنبلة، والخيار الوحيد أمام الولايات المتحدة وحلفائها هو الاستسلام أو استخدام القوة. في هذه اللحظات التاريخية، هناك مفارقة تتمثل في أن أنصار المحادثات غير المشروطة مع طهران يجعلون احتمال وقوع الحرب أكثر من غيرهم.