قمة دمشق ومهمة إعادة تأسيس السياسة العربية

TT

تنعقد القمة العربية بعد أسبوع، وسط خلافات عربية معلنة، ووسط انقسامات عربية ملحوظة، ومهمة القمة أن تبحث في الخلافات والانقسامات وأن تجد حلا لها. مهمة القمة كما كانت دائما، أن تتفق على فهم طبيعة الانقسام، وأن تضع في مواجهته خطة عربية واحدة.

انعقدت القمة العربية الأولى عام 1964، لتبحث في مخاطر تحويل إسرائيل لمياه نهر الأردن، ووضعت في مقابلها خطة تحويل روافد نهر الأردن، وشكلت من أجل ذلك القيادة العربية الموحدة برئاسة المشير علي علي عامر. وانعقدت قمة الخرطوم عام 1967 لتبحث في هزيمة حرب حزيران/ يونيو، ووضعت في مقابلها خطوة تمويل إعادة بناء الجيشين المصري والسوري من أجل استعادة الأرض التي احتلت. وانعقدت قمة القاهرة عام 1970 من أجل حل الصراع الفلسطيني ـ الأردني. وانعقدت قمة الرباط عام 1974 من أجل وضع خطة للتعامل مع نتائج حرب تشرين الأول/ اكتوبر، ووضعت خطة للعمل العربي المشترك، واعتماد منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وانعقدت قمة القاهرة عام 1976 من أجل إقرار خطة عربية (خطة مؤتمر الرياض السداسي) من أجل معالجة الوضع المتفجر في لبنان. وهكذا كانت القمم العربية تنعقد دائما من أجل قضايا استراتيجية، أو من أجل قضايا متفجرة، وتعمل على وضع خطط لمواجهتها. وانعقدت على أساس ذلك آخر قمة عربية في الرياض عام 2007، لتقر اتفاق مكة الذي وضع صيغة لوقف الاقتتال الفلسطيني، والذي حاول «استعادة القرار السياسي العربي»، بعد أن تمادت سياسة السيطرة الأميركية على الوضع العربي، وقامت باحتلال العراق، من أجل بلورة مفهومها لقيام «الشرق الأوسط الجديد». وصدر عن هذه القمة «بيان الرياض» الذي أكد أمورا كثيرة، منها : تأكيد خيار السلام العادل والشامل باعتباره خيارا استراتيجيا للأمة العربية. ومنها تأكيد أن ما تجتازه منطقتنا من أوضاع خطيرة، تستباح فيها الأرض العربية، يستوجب منا جميعا وقفة تأمل صادق، ومراجعة شاملة.

إن ما ورد في بيان الرياض، جدير بأن يكون جدولا لأعمال قمة دمشق التي ستنعقد بعد أسبوع واحد، شريطة أن تكون المراجعة هذه المرة حاسمة وجوهرية، بسبب سياسات أميركية وإسرائيلية تطبق على المنطقة، وتحاول جرها نحو أهداف لا تريدها. وهنا، فإن أحدا لا يستطيع أن يتجاهل الظروف والتطورات التي تحيط بالوضع العربي، وبالقمة العربية نفسها، والتي تستدعي القيام بمراجعة سياسية حاسمة.

البند الأول في المراجعة السياسية الحاسمة المطلوبة يتعلق بالقرار العربي المتخذ منذ العام 1974، والذي دخل حيز تطبيق أشمل في العام 1991 الذي شهد انعقاد «مؤتمر مدريد»، وهو القرار الذي يؤكد أن السلام خيار استراتيجي للأمة العربية. لقد تم اختبار هذا الشعار على مدى عقود، وجرى اختباره بشكل محدد في الموضوع الفلسطيني على مدى سبعة عشر عاما، والنتيجة المؤكدة لهذا الاختبار هي أن إسرائيل ترفض اعتبار السلام خيارا استراتيجيا لها. وقد آن للعرب الآن أن يحسموا أمرهم في هذه المسألة، وأن يستنتجوا الدروس اللازمة من هذا الرفض الإسرائيلي المتواصل لسياسة السلام، والذي يترجم الآن على الأرض، بمساع مكثفة للاستيلاء على مدينة القدس، وبمساع مكثفة للاستيلاء على نصف أراضي الضفة الغربية، من خلال الاستيطان، ومن خلال بناء الجدار الفاصل، الذي يرفض حتى مساعي التهدئة التي تبذلها مصر، والذي يعرقل المفاوضات الجارية مع السلطة الفلسطينية، ويحولها إلى جلسات لهو مملة.

البند الثاني في المراجعة السياسية الحاسمة المطلوبة يتعلق بتحديد فهم عربي موحد لطبيعة الخطر الذي يواجه المنطقة العربية، والذي تلعب الولايات المتحدة الأميركية في تحديده دورا حاسما. إذ بينما يعاني العرب من الخطر الإسرائيلي ومن الاستعدادات العسكرية الإسرائيلية المتواصلة للحرب، تدفع الولايات المتحدة باتجاه زج العرب في مواجهة مع ايران، بينما يدرك العرب جميعا أن لا مصلحة لهم في مثل هذه المواجهة، ولا مصلحة لهم بالتالي في الشعارات الإعلامية التي تقسم المنطقة إلى معتدلين ومتطرفين، ثم تحاول دفع الطرفين إلى المواجهة والخصام، ولا مصلحة للعرب بالتالي بالشعارات السياسية التي تحاول إخفاء الخطر الإسرائيلي، محاولة تصوير الوضع في المنطقة على أنه خيار بين المخطط الأميركي السلمي والمخطط الايراني المدمر. لقد عالج مؤتمر القمة في الرياض هذه المسألة، وبلور اتفاقا سياسيا عربيا حولها يقوم على ما يلي «تأكيد أهمية خلو المنطقة من كافة أسلحة الدمار الشامل (إسرائيل)، بعيدا عن ازدواجية المعايير وانتقائيتها (أميركا)، ومؤكدين حق جميع الدول في امتلاك الطاقة النووية السلمية (ايران والعرب). ولا يزال هذا الموقف العربي الجامع، صالحا للاعتماد كسياسة عربية رسمية، ينتفي معها الحديث عن قسمة العرب إلى معتدلين ومتطرفين، ويتم معها التأكيد على حظر السلاح النووي الذي تملكه إسرائيل.

البند الثالث في المراجعة السياسية الحاسمة المطلوبة، هو نتيجة للبت والاتفاق على البندين الأول والثاني، إذ أن الاتفاق حولهما سيشكل مدخلا مناسبا لمعالجة الوضع المتأزم في لبنان، وكذلك لمعالجة الوضع المتأزم في فلسطين بين السلطة وحركة حماس، ذلك أن الجذر في استمرار هذين الخلافين هو جذر سياسي. وعند وجود بت عربي، واتفاق عربي، حول هذا الجذر السياسي للمسائل، سينفتح الباب موضوعيا أمام بحث من نوع جديد لحل الأزمتين في لبنان وفلسطين. ومن يشذ بعد ذلك عن صيغ الحلول المطروحة، يضع نفسه في عداء مع العرب جميعا، ليتحول إلى طرف منبوذ لا إلى طرف محاور.

إن البحث في هذه البنود الثلاثة، لا يمكن عزله عن الزيارات التي تشهدها المنطقة. لا يمكن عزله عن زيارة ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي، التي تأتي قبل انعقاد القمة العربية، لتعيد تأكيد الموقف الأميركي الذي يريد زج العرب في مواجهة مع ايران، باذلا جهودا حثيثة لإبعاد العرب عن التفكير في الخطر الإسرائيلي الذي يتهددهم فعليا. ولا يمكن عزله عن زيارة السناتور جوزيف بايدن المرشح للرئاسة الأميركية، صاحب نظرية تقسيم العراق، والذي أتحفنا ـ بكل بساطة ـ بالقول إنه يعتبر القدس عاصمة لإسرائيل. ولا يمكن عزله عن زيارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي لم تستطع أن ترى، حتى بعد مجزرة غزة، سوى صواريخ المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي. إنها حملة أميركية ـ اوروبية للدفاع عن إسرائيل في وجه العرب جميعا، تستدعي موقفا عربيا يعلن رفض هذه السياسات الدولية، ويضع المنطقة العربية على أبواب مسار سياسي جديد.

إن مثل هذه القضايا المقترحة.. القضايا التي تعيد النظر في سياسة متبعة منذ عقود، ومن أجل رسم سياسة مستقبلية جديدة، لا يمكن أن يتم في يوم أو يومين، وربما كان الأمر يستدعي من الملوك والرؤساء وضع توجهات عامة، ثم تشكيل لجنة عربية عليا، من السياسيين والخبراء، تجتمع على مدى العام، وتتولى اقتراح خطوط السياسة العربية الجديدة، ليقرها الملوك والرؤساء في قمة مقبلة، علنا أو سرا. لقد كان الحال هكذا يوم تأسست الجامعة العربية. ويحتاج الأمر، بعد ستة عقود على تشكيلها شهدت فيها تغيرات عربية وإقليمية وعالمية جذرية، إلى القيام بحوار تأسسي جديد، وكأن الجامعة العربية تتأسس للمرة الثانية.

لقد قيل في قمة الرياض العام الماضي إنها تسعى إلى «استعادة القرار السياسي العربي»، بعد أن أصبح في يد الآخرين. وعملية إعادة التأسيس المطلوبة اليوم هي عملية بحث وتقص من أجل «استعادة القرار السياسي العربي»، بعد أن دخلت القوى العظمى إلى المنطقة بجيوشها، وهي تحاول تقسيم المنطقة على هواها.

لقد قالت قمة الرياض «إن أمتنا العربية قادرة حين توحّد صفوفها، وتعزز عملها المشترك، أن تحقق ما تستحقه من أمن وكرامة».

وهذا هو التحدي الحقيقي أمام قمة دمشق.. أن تجعل من قرارات قمة الرياض خطة عمل للمستقبل.