نساء العراق: لو سكنَ الدهر..!

TT

مرَّ يوما المرأة والأم العالميان ونساء العراق في أحط أحوالهنَّ، قياساً بتقادم الزمن، وما تحملنَ من تبعات الحروب والقتل اليومي، وهنَّ بين أرملة وثكلى، ومذعورة من ملاحقة في الطرقات! فما قيمة مادة دستورية شرعت عدم التمييز على أساس الجنس، ووجود وزيرات وبرلمانيات، بينما العراقيات يُقتلنَ بالعشرات، من غير اللواتي انتحرنَ حرقاً بمناطق شتى! وتحصر ثقافتهنَّ وإمكانياتهنَّ بما يتداولونه من مقولة «حسن التبعل»! ويعد إلغاء قانون الأحوال الشخصية انجازاً، ويشرع لمرافقة المُحرم عند سفرهنَّ!

نعم، أقر دستور (2005) الدائم (المادة 14) ما أقره الدستور المؤقت (1958)، أول مرة، من عدم التمييز بين العراقيين على أساس الجنس. لكن، المساواة مهدورة في الدوائر والجامعات والطرقات، والسبب أن الجماعات الدينية تفرض تعميم ثقافتها، ويأتي الحجاب في المقدمة، مع الحفاظ على الظهور بمظهر حضاري!

وبالمقابلة بين الأزمنة، لم يمنع عدم تثبيت حقوق النساء دستورياً (1925) انطلاق المجتمع إلى الأمام، ونشأة حياة مدنية مدعمة بطبقة وسطى، وسيلة التوازن على شتى المستويات. كانت دولة العشرينيات حذرة من رفع الراية الدينية بوجهها، لذا حاولت البقاء محافظة في دستورها متحررة في فعلها. وبالعكس تعلن الدولة الحالية المساواة بدستورها (أنظر المادة 14) مدعيةً المدَنية بينما تجهد دفع المجتمع إلى الخلف عن طريق أدواتها، إنها حيلة كبيرة من الحيل الشرعية!

هذا ملخص التباين ما بين عراق العقد الثالث من الألفية الثانية، وعراق العقد الأول من الألفية الثالثة، وقد مر أكثر من ثمانين عاماً. كان الرقي يتصاعد، والمعركة حامية حول معاملة النساء بين تقدميين ومحافظين، إلا أنها معركة متحضرة، لم تصدر فيها فتوى ضد أحد، ولم يستباح دم النساء اللواتي كسرن طوق الحبس في المنازل. واقتحمن كلية الطب، والقانون، والعمل السياسي، وإن كان في الأحزاب السرية. ولم يتقدم شيخ عشيرة أو فقيه مهدداً بالقتل، إلا بحجم استغلال الظاهرة سياسياً.

كانت عقود صعود، تراجعت أمامه عادات وتقاليد، بلا إثارة من قبل طرفي الصراع. وعلى الرغم من طوق التخلف، الملتف حول أعناق النساء والرجال على حد سواء، نما تبدل تدريجي، تحول فيه القاضي توفيق الفكيكي (ت 1969) من نصير لفرض الحجاب إلى متضامن مع حقوقهنَّ. وتحول فيه الشيخ محمد رضا الشبيبي (ت 1965) من مؤيد لإقرارهنَّ بالمنازل إلى وزير يفتتح مدارس لهنَّ.

وجرت معركة بالنجف حول فتح مدرسة للبنات (1928)، وبين أبناء الأُسر الدينية، فمَنْ هو محمد مهدي الجواهري (ت 1997) غير حفيد المرجع الديني محمد حسن النجفي (ت 1850)، صاحب «جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام». ومَنْ هو صالح الجعفري (ت 1979) غير حفيد المرجع جعفر الكبير (ت 1813)، صاحب «كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء». ومع ثورة الشاعرين، ووقفة غيرهما ضد المؤسسة الرافضة تعليم النساء، إلا أن المعركة جرت هادئة، بل وكان من ثمراتها أروع القصائد والأدب (الغبان، المعارك الأدبية حول تحرير المرأة).

وخلافاً لما حصل آنذاك، غدا زمن العراق الآني، وبعد 87 عاماً من تأسيس الدولة، زمنا فظيعا، يدار بالقسوة نفسها التي كانت تدار فيها دفة الحكم من قبل. وتأتي أحوال النساء في المقدمة. فما من سلطة دينية إلا وجعلت معاملتهنَّ مؤشراً على قوتها. دشنت حملة صدام الإيمانية بفرض قانون «غسل العار»، الظاهر بقطع رؤوسهنَ بالفؤوس. وبلا خجل، دافعت صحف عربية، تدعي المدنَّية، عن تلك الإجراءات، بل جعلتها مناقب ومآثر! وها هي الجماعات الدينية، وبترحيب غير مخفي من الكيانات الكبرى، تنهج نهج الحملة نفسها! بل فرخت الحملة حملات! وتفرع القائد إلى قادة!

حقبة، على الرغم من تقدمها الزمني، أخذ الصراع يُخاض فيها بسفك الدماء، لا بقصائد وسجالات أدبية، مثلما نقرأ في تركة نقائض الحجابيين والسفوريين من الزمن الماضي. تبدلت العقول والمزاجات، حتى أمسى الشاعر مقتولاً، والأديب مقتولاً، والصحفي مقتولاً، والنساء مقتولات، اللواتي يظهرن مدافعات عن مكاسب تتناسب مع ما يُروى عن إشعاع العراق الحضاري، وما أُثبت، للديكور فقط، في ديباجة الدستور! ما تقدم، وما يلحق من قتل النساء بجريرة مخالفة الشريعة، ونحن في مقدمات الألفية الثالثة، أمر يُحق فيه التمني: لو سكن الدهر ولم يتعد العشرينات، كي لا يرينا كائنات ما وراء التاريخ، تتلاعب في أمرهنَّ وأمورنا على حد سواء! أرى في هذا التراجع فساداً في العقول لا في الأيام: «إن الجديدين في طول اختلافهما.. لا يفسدان ولكن يفسد الناس» (ديوان الخنساء).

[email protected]