«عبأ الحطب قبل ما خطب»

TT

سنوات كثيرة مضت على ذلك المساء الجميل الذي نبت فيه على قطعة القماش البيضاء أناس يتحركون ويتحدثون ويرقصون ويعشقون، وقد انقسم السطح إلى جزءين، احتل النساء الجزء الذي خلف قطعة القماش «الشاشة» بينما انفرد الرجال بجزء المقدمة، واستطاع إسماعيل يس في تلك الليلة أن ينتزع الكثير من قهقهات الرجال المجلجلة وضحكات النساء الخافتة الخجولة.. فلقد كنت طفلا حينما شاهدت أول فيلم سينمائي في حياتي على سطح بيت الجيران..

وظل عشق السينما في دواخلي بعد ذلك سنوات دون ارتواء، لذا فإن مما حرصت على فعله حينما غدوت صبيا الذهاب إلى رصيف الميناء، ومتابعة الأفلام التي كانت تعرضها السفن التجارية الراسية في الميناء لبحارتها على سطوح المراكب، ولم يكن حاجز اللغة يحول دون بهجتنا، ونحن نتابع تحركات الممثلين على الشاشة.. وقد دفعني عشق السينما في مرحلة لاحقة من عمر الصبا إلى تسلق سور إحدى السفارات في نهاية كل أسبوع لمشاهدة الأفلام العربية التي تعرض لأبناء تلك الجالية، ثم غدوت بعد ذلك زبونا دائما لدور السينما السرية البدائية التي انتشرت في الأحياء الشعبية، وتعرض أفلاما عربية وهندية، وسعدت كثيرا ذات مساء وأنا أصافح الفنان فريد شوقي الذي جاء للحج والعمرة، واستضافه أحد أصحاب تلك الدور للترويج لداره التي هي مجرد فناء واسع، تتكدس فيه الكراسي وتتلاصق لتتسع لأكبر عدد من المشاهدين، ولم يكن يتجاوز رسم الدخول ريالا..

وكنت أدخل مجانا بعض تلك الدور بشفاعة جار لنا اسمه «أبو العيون» يعمل «ناضورجيا» لحماية دور السينما غير النظامية من مداهمات رجال الحسبة، فهو طوال مدة العرض يقف أمام مخفر «الهيئة»، فإن أحس بأية تحركات انطلق بدراجته النارية ليحذر أصحاب تلك الدور، فيقومون بإخراج الجمهور، وإخفاء الفيلم وماكينة العرض، وبدخول التلفزيون في عقد الستينات من القرن الماضي أغلقت تلك الدور أبوابها بعد أن انصرف عنها الجمهور، ولكن لم تخمد في دواخلي جذوة عشق السينما، فأنا أقضي جزءا كبيرا من وقتي في الخارج داخل دور السينما، وآخر ما شاهدته فيلم الرائع يوسف شاهين «هيَ فوضى»..

اليوم أسمع عن إنتاج أفلام سعودية تعرض في القاهرة ودبي وبيروت، وأصبح ينطبق علينا المثل «عبأ الحطب قبل ما خطب»، فقفزنا إلى مرحلة إنتاج الأفلام قبل أن نجهز الدور لعرضها.. عجبي.

[email protected]