العصيان المدني أو العصيان الإرهابي

TT

طالما أسيء فهم العصيان المدني في البلاد العربية، ولم يسلم من ذلك مقتدى الصدر في العراق. العصيان المدني بديل للنضال المسلح. أول ركن من أركانه إلقاء السلاح واعتماد العمل السلمي والجهاد المدني، أو ما يسمى باللاعنف. كان الرائد الأول فيه المهاتما غاندي. وكانت أول تجربة فيه من أجل الاستقلال قد جرت في الهند في العشرينات بدعوة منه. ولكن الهنود وقعوا بما وقع به الصدريون قبل أيام في اللجوء إلى العنف. وحالما لاحظ غاندي أن الحملة أدت إلى حوادث تخريب وإرهاب وعنف، بادر فورا إلى وقفها، واعترف قائلا إن الهند لم تتهيأ بعد لهذا السلاح السلمي. أتباع جيش المهدي حملوا أسلحتهم وراحوا يهددون بها الآخرين لإجبارهم على التوقف عن أعمالهم وغلق محلاتهم وإيقاف حركة النقل. بعبارة أخرى، ما جرى في بغداد هو تطوير عراقي للعصيان المدني بحيث ينسجم مع تقاليد البلد، فيتحول من عصيان مدني إلى عصيان عنفي دموي. وهكذا مسخوا العصيان المدني تماما مثلما مسخوا الحكم الديمقراطي.

العصيان المدني لا يستهدف تعطيل أعمال الناس وإنما تعطيل أعمال السلطة بعصيان أوامرها، وهو شيء آخر غير ما فعله جيش المهدي. مقتدى الصدر الآن في قم، وقد أعلن أنه يريد أن يتفرغ للدراسة. أعتقد أنه قد أساء الاختيار. كان عليه أن يذهب إلى دلهي وليس إلى قم. أقول ذلك رغم معرفتي التامة بأن الثورة الإسلامية في إيران قامت أساسا على العصيان المدني والجهاد المدني اللاعنفي. يا ليته تبنى ذلك في العراق. ويا ليته ذهب إلى الهند وليس إلى قم ليدرس الساتياغراها الغاندية هناك.

ربما يتصور بعض القراء أنني أعود للسخرية والمزاح هنا. كلا، هذا موقف يتطلب تمام الجد، فهو يمس مصير دولة وشعبها. لقد اعتمد نجاح غاندي في حملته وشعبيته والتفاف الجماهير حوله على نزاهته وزهده ومكانته العائلية والدينية التي ضمنت له احترام قومه واستماعهم له. يمكن أن أقول نفس الشيء بالنسبة لقيادة الخميني للثورة الإسلامية اللاعنفية. هذا في الواقع سرُّ فشل الجهاد المدني في البلاد العربية. فلم يكن بين من نادوا بسلاح اللاعنف عندنا من تمتع بمثل هذه المكانة الروحية والدينية والعائلية. نادى باللاعنف في فلسطين مبارك عوض، وكان مسيحيا من أسرة متواضعة ومتزوجا بأمريكية. الجهاد المدني سلاح العصر المتطور، سلاح المستقبل، ولكنه في عالمنا العربي ما زال يحتاج لشخصية كارزماتية زاهدة تتمتع بشعبية عامة وتنتمي لأسرة إسلامية بارزة وتنيرها مسحة دينية روحية.

وأخيرا تحتاج ـ وا أسفاه ـ لبلد غير العراق!