بعد 5 سنوات من التغيير.. العراق على طريق التحول الديمقراطي

TT

مثل أي تحول جذري، تتسم الأوضاع في العراق، بمظاهر وتناقضات، تثير تساؤلات حول إمكانية تجاوز الأزمات التي تعصف بالعملية السياسية الديمقراطية، وقدرة القيادات المشاركة فيها، على ضبطها، ونفي نتائجها السلبية، ووضعها في المسار الصحيح.

إن طابع الصراع الذي تميز بالتصفيات الدموية، والقتل على الهوية، ومظاهر الفساد، والانفلات الأمني، والكانتونات الطائفية، وتخريب مؤسسات الدولة وأجهزتها الحساسة، يثير الالتباس والشكوك لدى مختلف الأطراف، حول آفاق تطور البلاد، والسياسات المنتهجة وآلياتها، وما تفرزه من تناقضات جديدة، بين قوى العملية السياسية نفسها وتأثير ذلك كله على بناء دولة القانون والحريات وحقوق الإنسان، الدولة المدنية الاتحادية الديمقراطية المنشودة.

وفي ذات السياق، تثار تساؤلات حول العديد من المظاهر السلبية التي تتعلق بالقضايا العقدية، ويتوقف على معالجتها من زاوية إنجاح العملية الديمقراطية، المصائر اللاحقة للبلاد، وأسس بناء الدولة، وضمان ترسيخها ودرء مخاطر ارتدادها. ومن بين هذه المظاهر، والقضايا، صياغة مفهوم سياسي واضح وملموس، للمصالحة الوطنية، والمشاركة، وحكومة الوحدة الوطنية، بل ومفهوم التوافق الوطني، باعتباره تجلياً للديمقراطية في ظل الظروف الراهنة، والمرحلة الانتقالية، واختلال توازن القوى. وتظل مفاهيم أخرى، مثل الفيدرالية وأسس تنظيمها، والدولة الاتحادية، والعلاقة والصلاحيات بين تشكيلاتها هي الأخرى، مدار سجالات تتطلب تكريس ما يعبر عن تطلعات الشعب العراقي بتنوعه القومي والديني والمذهبي، وهو يمكن أن تجسده دولة اتحادية ديمقراطية مدنية.

وقد يثار بعد خمس سنوات من إطاحة النظام السابق، ومن موقع القوى والأطراف والدولة المعادية للتغيير الذي جرى، ولاعتبارات مختلفة، تساؤل عريض يستند إلى الحراك السياسي ومظاهره السلبية، حول جدوى التغيير نفسه، ومدى تعبيره عن المصالح الوطنية العليا للعراق والعراقيين.

ويغلب على خطاب هؤلاء، النزوع إلى تبرئة النظام السابق من كل ما ارتكبه من جرائم ضد الإنسانية، ورفع أي مسؤولية عنه لما جره على العراق من كوارث وبلايا، وما ترتب على نهجه الاستبدادي الدموي المغامر، من نتائج مدمرة، أدت في المحصلة النهائية إلى ما آل إليه الوضع من تداعيات بعد السقوط.

لقد انهارت دولة الطغيان في 9 نيسان 2003 تحت ثقل نهجه وسياساته ونتائجهما على العراق وعلى الجوار. ولم يكن بمستطاع أي قوة ان تحول دون هذا السقوط، بعد ان أوصلها صدام حسين إلى طريق مسدود لا خيار أمامه سوى هذه النهاية، أو التخلي عن الحكم وتجنيب البلاد الكارثة المدوية، وقد أصر على المغامرة والتمسك بالحكم على حساب مصالح الوطن وسلامة أبنائه. إن ذوي النوايا السيئة إزاء العراقيين، وأنصار النظام السابق وحدهم من لا يعترفون بأن النظام السابق نفسه، بما انطوى عليه، كان السبب الرئيس الذي أدى إلى ان يكون التغيير بهذا الحجم من الخراب والتدمير، بحيث شمل الدولة نفسها، وما نجم عنه من انفلات، ونهب وسلب، وفوضى أمنية وسياسية، وجرائم قتل، وغير ذلك من نتائج، جاءت متناقضة كلياً مع ما تبنته القوى الوطنية وهي في المعارضة من برامج وتوجهات ومطامح، إذ أصبحت الدولة والنظام والحزب والقائد والوطن بكل تجلياته كلاً واحداً، ومفهوماً لا يقبل القسمة، ولا يسمح بالتعرض لأحدها من دون تعريض سائرها للتفكك والانهيار. وقد تشكل العراق على هذه الصورة بعد سلسلة لم تتوقف منذ انقلاب 1968، من التصفيات السياسية الدموية، ومن إفراغ الحياة السياسية من مضامينها وتشكيلاتها الحزبية، توجت باستهداف حزب البعث العربي الاشتراكي الذي تعرض هو الآخر إلى تصفيات، حولته في نهاية المطاف، إلى أداة طيعة لخدمة مطامع رأس النظام وعلى الضد من مصالح الشعب والوطن والمعارضين لنهجه من أبناء جلدته وحزبه.

وهذا التركيب المشوه للدولة واندماج عناصرها ومكوناتها في شخص «القائد» وتصفية الحياة السياسية من أركانها بما في ذلك من حزب البعث، قوض إمكانية إجراء أي تغيير بالوسائل التقليدية، خصوصاً بعد ان رفض صدام حسين الاستجابة بأي قدر كان للتخفيف من سطوة تسلطه ونزعاته المغامرة حتى في إطار «التنفيس السياسي» الفوقي الذي يساعد على أدنى حد من الانفراج السياسي الداخلي والخارجي. بل أصر على المواجهة واعتماد العنف والتصفيات، الوسيلة الوحيدة في حل ما يواجهه من إشكاليات وتناقضات سواء مع الشعب أو مع القوى والأطراف الخارجية.

بعد خمس سنوات على سقوط الطغيان، يظل تساؤل البعض يدور حول الوسيلة التي اعتمدت في إجراء التغيير، ومسؤولية الأحزاب والقوى الوطنية المعارضة في اختيارهم، بل لا يتوانى هؤلاء على التشكيك في التغيير من حيث الجوهر، بغض النظر عن الوسيلة.

ان المواجهة والحرب، كان خيار صدام حسين شخصياً، ولم يكن في قدرة أطراف المعارضة مجتمعة، الحيلولة دونه أو تغيير مجراه أو التخفيف من وطأة نتائجه، بعد ان استنفدت كل الأساليب التي كان من شأنها إجراء انعطافة في الوضع تجنب البلاد ويلات الحرب وكوارثه.

ومما زاد من حتمية اعتماد الحرب، وسيلة لتصفية النظام في بغداد، اصطفاف دول عربية وإقليمية إلى جانبه، وتخليها حتى عن «النية» لدعم الشعب العراقي وقواه الوطنية، والتعاطف مع إرادته في تحرير بلاده من النظام الدكتاتوري، بل ان أغلبها اصطف إلى جانبه من منطلقات ودوافع مختلفة، من دون ان يتوانى البعض منها عن «تزكيته» والسعي لإعادة الاعتبار له والتشكيك في أي تحرك لإطاحته.

في حمى المواجهة بين العراقيين والنظام السابق، ظل شعبنا الكردي حتى في أكثر لحظات ضعف النظام، يسعى لإيجاد تسوية سياسية تستجيب لمطامحه القومية، في إطار عراق موحد، ينأى النظام بنفسه ولو بالحدود الدنيا، عن نزوعه الدموي، ويلبي ابسط مستلزمات مراعاة حرمة المواطنة، والحق في التعبير عن نزعات العراقيين الإنسانية.

وقد تجاوزنا في مسعانا هذا، كل ما تعرضنا له من حملات الإبادة الجماعية في «الأنفال» سيئة الصيت، وإبادة ثمانية آلاف بارزاني وفي حلبجة التي أبيد فيها أكثر من خمسة آلاف امرأة وشيخ وطفل، ومن تدمير بضعة آلاف من القرى، لم تكن جريمة الضحايا جميعاً سوى أنهم أكراد. صحيح أن الحرب لم تكن الوسيلة الأمثل للتغيير، بل لم تكن وسيلتنا أصلاً، لكنها أصبحت بفعل نهج وسلوك النظام البائد، الخيار المتاح لإنقاذ الشعب العراقي من الظلم والاستبداد، والدكتاتورية والطغيان، ولم يكن الاحتلال الذي فرض على العراق بموافقة دولية وعربية خيارنا أيضا، بل جاء على الضد من وجهة نظرنا ومصالحنا، مما أدى إلى تداعيات سلبية تستمر وتتفاعل بعض نتائجها حتى الآن. إننا ونحن نقيّم سنوات التغيير العاصف، الذي نعتز بما وفره لشعبنا من إمكانيات للتحرر من الاستبداد والتمتع بالحرية وحق اختيار سبيل التطور، وما أتاحه من حراك واصطفاف ومن آفاق إقامة دولة ديمقراطية اتحادية مدنية، لأول مرة في العراق، لا نتردد عن الاعتراف بالأخطاء والخطايا التي ارتكبت في مجرى عملية التغيير، ومن التباسات لم نكن نحن طرفاً فيها، مسّت دولاً وأطرافا معنية بالشأن العراقي.

ان ما يهمنا ـ ونحن ندشن عاماً سادساً في التغيير، الذي فتح أمام شعبنا باب الأمل ـ هو التأكيد على ثقتنا بالإرادة الإيجابية التي تجمع الأحزاب والمكونات والأطراف المشاركة في العملية السياسية، وقدرتها على تجاوز خلافاتها وتناقضاتها، وإمكاناتها في جذب قوى «ليس في أساس وجهتها» معاداة التوجه الوطني العام، للانخراط في العملية السياسية الديمقراطية وإشراكها في إدارة البلاد. يبقى لكي نمهد الطريق لتأمين مستلزمات إنجاز الاستحقاقات الوطنية كلها، الارتقاء بالعمل الوطني المشترك إلى مستوى يشعر فيه كل طرف بأنه يتحرك من موقع الشريك المسؤول، بعيداً عن أي نزعة استئثار أو تسلط أو إقصاء أو عزل.

ان البقاء في دائرة المناورات لكسب الوقت، أو تأجيل البت فيما يتطلبه أي إنجاز، وفي مقدمة ذلك تحقيق المصالحة الوطنية، وإعادة تشكيل الحكومة على أسس وطنية، وتصفية أي مظهر للاستقواء بالسلاح خارج مؤسسات وأجهزة الدولة، لا يعزز سوى مواقع المتربصين بالعراق الجديد، ويضعف الثقة بإمكانيات بناء أسس راسخة له. إننا نثق بأن الطريق بات مفتوحاً أمامنا جميعا، نحو تحولات ستفضي، في النهاية إلى عراق ديمقراطي اتحادي، يجسد مطامح شعبنا العراقي في إقامة وإرساء أسس دولة للمواطنة الحرة التي تقر لكل فرد فيها، فرصاً متساوية في العمل والحياة الكريمة الآمنة والحرية المصونة.

* رئيس إقليم

كردستان العراق

يكتب لـ «الشرق الاوسط»