العِراق.. نَواحِس الأربعاء!

TT

الأيام هي الأيام، تمر والحوادث تسجل عليها نَواحِسها والسُعود، ولربما من المصادفات الغريبة العجيبة أن تجد في التراث العراقي، الأربعاء يوماً منحوساً، من العهد الأموي، حسبما رصدته آذان الإخباريين وأقلام الرواة. وها هو التقويم يدور وتصادف هذه الأربعاء الذكرى الخامسة لسقوط نظام عاتٍ ما زال الكثير من بواطنه بلا رواية، فالشهادات لم تؤخذ، ولم تُسطر على الورق بعد.

إلا أن اليوم والحدث، بالنتائج التي أسفرت، لا يخلو من أنه كان سقوطاً لبغداد وهداً لقاعدة الدولة وقمتها، هذا ما بان في مشهده النازف دماً والصارخ بؤساً، واتضح من الأسبوع الأول، وعلى مر تلك السنين الخمس العجِاف، اللواتي لولا خيبتنا بالرؤوس السُراة لكانت سِماناً، خضرا لا صفرا كالحات. وبطبيعة الحال، لا يراها مسؤول الأمن القومي، ولا مسؤول عائد مسرعاً إلى إعمار مضيف لأبيه تحت عيون فقراء القرى المحيطة، ولا المستشارون المسافرون في الدرجات الذهبية، ولا الوزراء، ولا نواب في البرلمان، ورؤساء كتل كبرى وصغرى، وزعماء مذاهب وقادة جيوش سادوا، مثلما يراها فاقد أُسرة كاملة، ومَن تعايش مع الأزبال والأوحال، والحالم بالكهرباء، وقطعة من ثلج في قيض بغداد الحارق!

مِن نَواحِس الأربعاء أن أهل العراق كانوا يتطيرون منه: «لا يتناكحون، ولا يسافرون فيه، ولا يدخلون من سفر، ولا يبايعون فيه بشيء، ولا بالبغل الأغرِّ الأشقر. قال: فدعا الحَجاج ببغلة شقراء محجّلة، فركبها خلافاً لرأيهم، واستشعاراً بطيرتهم، وتوكلاً على الله، ونادى مناديه في عسكره: أن أنهضوا إلى قتال ابن الأشعث» (الإمامة والسياسة).

كانت معركة دير الجماجم (قريباً من بابل)، التي أرادها الحجاج (ت 95هـ) يوم الأربعاء، بينما حاول ابن الأشعث (قتل 85هـ) إبعادها عن هذا اليوم المنحوس لدى جيشه من أهل العراق. معركة فاصلة ليست كبقية المعارك، فلخطورتها عُرض على عبد الملك بن مروان إقالة الحجاج وإمرة ابن الأشعث، فقيل «نَزع الحجاج أيسرُ من حرب أهل العراق» (تاريخ الأمم والملوك)! قُتل فيها ألوف مؤلفة، «أخذت السيوف تُبري الرقاب»، وأعدم فيها الحَجاج الأسارى من أمثال: الفقيه سعيد بن جبير، والشاعر أعشى همدان، والأخير لم ينفعه المديح: «ويُنزل ذُلاً بالعراق وأهله.. لِما نَقضوا العهد الوثيق المؤكدا»(نفسه).

وكان الأربعاء يوماً لاجتياح بغداد من قِبل المغول التتار، زحفوا عليها كالقوارض، من الأسوار والبوابات، واتفق أن يكون من أيام صفر، السابع منه، وهو يوم منحوس كما تقدم، وشهر أنحس لدى العراقيين، في ذلك الزمان، حتى جمع النحسين أبو حيان التوحيدي بقوله وهو يتحدث بلسان حال أحدهم: «يا يوم الأربعاء من آخر صفر، ويا لقاء الكابوس في وقت السحر»(الرسالة البغدادية)! قال رشيد الدين الهمداني (قُتل 718هـ) مؤرخ وطبيب المغول: «كان بدء القتل العام والنهب في يوم الأربعاء، السابع من صفر، فاندفع الجند مرة واحدة إلى بغداد، وأخذوا يحرقون الأخضر واليابس، ماعدا القليل من منازل الرعاة، وبعض الغرباء» (جامع التواريخ).

وكان قتل الخليفة عبد الله المستعصم في الأربعاء التي تلتها، الرابع عشر من صفر، وهو اليوم الذي قرر فيه هولاكو ترك بغداد «بسبب عفونة الهواء»(نفسه)، ولربما لنفس السبب والغاية غادرها الغازي الأمريكي الجنرال تومي فرانكس، فبعد فترة وجيزة من مكوثه في القصر الجمهوري هنأ جيشه على الانتصار وغادر مصحوباً بألف سؤال وتساؤل!

لسنا بصدد المشابهة أو المقاربة بين عصر وآخر، ولو أمعنا البحث لوجدنا أكثر من أربعاء لها نَحسها وسُعدها! لكن يبقى العجب من تكرار مناسبة الاجتياح (الأربعاء 7 صفر656هـ)، وبالصورة نفسها، التي عرضها طبيب المغول لا عدوهم بالقول: «اخذوا يحرقون الأخضر واليابس»، وبما حدث في الأربعاء الفاصلة (6 صفر 1424هـ)، والعذر للعامة والخاصة أن يتشاءموا. وكم سيكون العذر مقبولاً إذا علمنا أن عصر القسوة الرهيب، تسلط دولة البعث، بدأ صبيحة أربعاء أيضاً (17 تموز 1968)!

لقد اختلطت المشاعر في أربعاء ما قبل خمس سنوات، بين نَحسٍ وسَعدٍ، وكانت الدهشة تطوي الأجواء: أين ذهبوا! قادة الأمس! هل هم لدى الأمريكان يجلسون على الأرائك لصفقة ما! أم يعدون العدة للعودة من بين السهول والبطاح! في تلك اللحظات آمن المتضررون، ومَن أفئدتهم على العراق بقول الشاعر الجاهلي: «لا يصلح الناس فوضى لا سُراة لهم.. ولا سُراة إذا جهالهم سادوا» (الأحكام السلطانية). أما الأمريكان فبطريقة، لا يفهم نسبيتها روبرت انشتاين نفسه، جعلوا لهم السراة والجهال، يغزون بعضهم ببعض، حتى كرسوا فينا ما قاله المنجمون في يوم الأربعاء: «يوم قليل الخير... يوم نَحس» (عجائب المخلوقات).

[email protected]