مكان الحنجرة

TT

33 عاماً على غياب أم كلثوم. غائبة الغياب الأخير وحاضرة الحضور الذي ما كان لأحد سواها. من أجل صوتها رفع الشعراء مستوى الشعر ورفع الملحنون روعة النغم. وعلى صوتها فرحت الأمة دون أن تسف وطربت دون أن ترقص وحفظت إيقاعها مع حفظ المقام. كانت في الألحان مقامات كثيرة، فلما ظهرت، صار هناك مقام إضافي، لا يقلد ولا يجارى ولا يوازى ولا يحلم بمثله أحد.

عندما فقدناها فقدنا الصوت الذي كان يغني لنا، ببساطة وروعة، أعمق الشعر. ريم على القاع. وفقدنا الصوت الذي اصطف عند أوتاره الشعراء وتكرس له بعضهم، إذ أصبحت الإمارة لا أن ترث شوقي بل أن تغني لك أم كلثوم. فصيحاً أم عامياً كتبت. فما يهم الوزن أو الوقع أو لعبة القوافي ما دامت «الست» هي التي سوف تغني؟

كتب كثيرون أنها خدَّرت العرب. لكنها كانت أحد مظاهر يقظتهم ووحدتهم. جمعهم صوتها وبث فيهم عشق اللغة وحب الالتقاء. كانوا يسهرون الخميس الأول من كل شهر على سعادة جديدة توزعها عليهم: في الجزائر وفي المغرب وفي الصحاري وفي الترع وفي الحقول وفي الفقر. كانت الثروة المشتركة والفرح المجاني الأكبر. لها هفت قلوبهم ولها هتفوا من أعماق صدورهم ومعها رددوا الأناشيد. كان موعدهم مع أم كلثوم موعدا مع النفس. أقصى حالات الانتشاء في أقصى أصول الأدب. أقصى حالات الطرب في أقصى حالات الوقار. أدركت معنى ما أن تكون السيدة هي «الست»، فاعتلت الذروة وحولت موقعها إلى قلعة. كان أحد الصحافيين الإيطاليين يلاحظ أن عرب باريس البسطاء يهرعون إلى منازلهم مساء كل خميس ولا يعودون يخرجون إلى مكان. وظن أن لقاءات سرية تتم في الخميس الأول من كل شهر. ثم اكتشف أن المغاربة والجزائريين والفلسطينيين والمصريين على موعد مع الفرح المنتظر الآتي من إذاعة القاهرة.

«الست»، محاطة برجال متقدمين في السن، متمادين في البساطة، مغرقين في طاعتها، متأهبين في متابعة منديلها، وآهاتها ونقرها على صنوج الصوت الصداح. «الست» ومن معها، يتجاوزون أنفسهم في اللحن والغناء والطرب، ويرسلون حول العالم أجمل الشعر، محركين أعمق المشاعر.

كلما غابت عمّق حضورها وتذهّب وترصّع. لم نعد نسمع شعرا يغنى ولا لحناً ينافس الشعر. ولم نعد نعرف مكان الحنجرة في المغنيات.