لا حل للبنان إلا بـ«عقد اجتماعي» بين اللبنانيين

TT

إن الوضع في لبنان يتجه إلى التصعيد وليس إلى الحلحلة أو الخروج من النفق. إن ما يحدث الآن أكبر من لبنان، اذ أن حرباً عربية باردة شبيهة بالحرب العربية الباردة التي كانت دائرة في الخمسينات والستينات تتأجج. والحرب ليست فقط بين محورين عربيين أي بين الدول المعتدلة والدول التي تنادي بالحرب لتلهي شعوبها فيما هي تعمل وتجهد للجلوس الى طاولة مفاوضات بينها وبين الولايات المتحدة وبينها وبين اسرائيل، فإذا راجعنا التاريخ وركزنا على حقبة الخمسينات والستينات، نرى ان إيران الشاه كانت لاعباً رئيسياً في «حلف بغداد»، واليوم إيران تقوم بدور أكبر من السابق.

ويقول البروفيسور فواز جرجس استاذ السياسة الخارجية الأميركية في جامعة ساره لورانس في واشنطن:

«إن الحرب العربية ـ الايرانية الباردة تجري على ثلاثة مسارح عربية: اللبناني، والعراقي والفلسطيني. لكن لبنان هو المسرح الأول والأهم. ثم إن خطورة هذه الحرب انها امتداد لصراع دولي اقليمي، مما يجعل اللبنانيين في قلب العاصفة».

منذ انتهاء قمة دمشق، تحركت «الشخصيات» اللبنانية بين مندد بمقاطعة لبنان لها ومصفق للمقاطعة. باختصار القمة فشلت، فهي لم تأت بأي حل للأزمة اللبنانية، أليس لبنان «اخاً» عربياً؟ إن القمة عقّدت الأزمة اللبنانية أكثر وأكثر، لأن الخلافات العربية ـ العربية تعمّقت وتزايدت نتيجة هذه القمة، وصارت الدول العربية الآن جزءاً من الصراع اللبناني الداخلي، فمن جهة هناك مصر والسعودية والاردن، ومن جهة اخرى هناك سوريا ومعها ايران.

الآن، بسبب خطورة الازمة فإن كل الاحتمالات صارت مفتوحة، خصوصاً ان وضع الولايات المتحدة في العراق صعب جداً. ويوضح الدكتور جرجس: «ان الولايات المتحدة تعتقد بأن لبنان صار ساحة لهزيمة المحور الايراني ـ السوري مضاف اليه جناح «حزب الله»، لذلك فإن التقاء الخلافات العربية ـ العربية مع الايرانية والعامل الدولي يؤديان الى تعقيد الوضع اللبناني».

كأن لبنان صار بنظر بعض اللاعبين الاقليميين بمثابة «قطعة مطاط» وليس معروفاً قدرة احتمال هذه القطعة على «المط» قبل ان تتفسخ.

ويبدو أن مجموعة الصقور في الادارة الاميركية غير مدركة هشاشة الوضع اللبناني وخطورة الازمة في لبنان. تماماً كما حال ايران وسوريا و«نظرة» الطرفين الى لبنان. فمجموعة الصقور تعتقد بأن في امكانها هزيمة ايران وسوريا في لبنان بالذهاب الى ابعد ما يمكن، وتظن ايران وسوريا بأن في امكانهما منع «المشروع الاميركي» من الهيمنة على الساحة اللبنانية.

واسأل الدكتور جرجس عن ماهية المشروع الاميركي؟ فيقول: «نزع سلاح «حزب الله» الذي يلعب دوراً رئيسيا في تأزيم الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وترى النظرة السائدة في الادارة الاميركية، ان «حزب الله» هو منظمة وحزب إرهابي وان هزيمته بالتالي هزيمة للتنظيمات الإرهابية وجزء من الانتصار في الحرب على الإرهاب. وتعتقد الإدارة الاميركية، بأن ايران وسوريا لاعبان رئيسيان في الحرب على الارهاب. ويضيف: «ان اميركا تريد تهميش «حزب الله» في الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وتحييد لبنان، ثم اضعاف وهزيمة المحور السوري ـ الايراني في لبنان».

واسأل: وهل يمكن تحييد لبنان؟ يجيب: طبعاً، لأن نزع سلاح «حزب الله»، يؤدي الى تحييد لبنان عن الصراع العربي ـ الاسرائيلي والى تغيير الخريطة الاستراتيجية». وحسب الادارة الاميركية والقيادة العسكرية الاسرائيلية، فإن «حزب الله» يُعتبر رقماً صعباً، ومن الاهمية بمكان نزع سلاحه وتحييده وهزيمته اذا امكن. ولا يعتقد الدكتور جرجس بأن هذا ممكن، لأن من يقامر ويغامر على هذه الاستراتيجية، فإنه يتسبب بحرب أهلية لبنانية. ويضيف: «بغض النظر عن الاختلافات الحقيقية بين القوى اللبنانية و«حزب الله»، فإن المغامرة على هذه الاستراتيجية، سوف تؤدي الى الهاوية. لأن هذه الرؤية الأميركية نمطية، ولا تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الوضع اللبناني أو قدرة «حزب الله» على الرد أو امتصاص الضربات التي توجه اليه على المدى القصير». إن مشكلة لبنان أكبر من لبنان، وأبعد من مسألة انتخاب رئيس جمهورية. انها تتعلق بمعنى لبنان. ليس هناك من ارضية تجمع اللبنانيين. إن الخلافات عميقة جداً بين كل الاطراف حول معنى وهوية لبنان وعلى المستقبل السياسي للبلد. ويجب عدم تبسيطها، كما يدعي بعض السياسيين بالحديث مرة عن «الثلث المعطّل» ومرة عن «القانون الانتخابي» او «حكومة الوحدة الوطنية». ان المؤسسات اللبنانية لا تستطيع التعامل او ادراك التغيرات الجذرية التي حصلت في البنية الاجتماعية والثقافية اللبنانية خلال الثلاثين سنة الماضية، اي منذ «الاحتلال» السوري للبنان ومنذ نجاح «الثورة الاسلامية في ايران». حتى لو انتخب رئيس للجمهورية، وقد يكون هذا مسألة وقت، فإن الانتخاب لن يؤدي الى حل جذري لأزمة لبنان، ما لم يبدأ «حضرات السياسيين» اللبنانيين بالحديث بوضوح وصراحة متناهية عن معنى ومستقبل السياسة في لبنان.

يقول الدكتور جرجس: «إن المطلوب من اللبنانيين ادراك تعقيدات وخطورة الوضع في لبنان. صحيح ان لبنان مسرح في صراعات الحرب العربية ـ العربية/الايرانية الباردة الثانية، لكن هذه الحرب اكبر وأعمق من الأزمة اللبنانية، ان ازمة لبنان جزء مهم في الصراع العربي ـ العربي/الايراني، وفي الخلافات، انما المطلوب من اللبنانيين تواضع اكثر واحترام اعمق لهشاشة الوضع السياسي والاجتماعي في لبنان، والادراك الذهني والفكري والثقافي بأنه لا مجال للخروج من الازمة، الا من خلال «عقد اجتماعي»، يعترف بأنه لا يمكن ادارة الازمة اللبنانية الا من خلال توافق لبناني ـ لبناني»!

ان التوافق اللبناني ـ اللبناني غير وارد بسبب هشاشة التركيبة السياسية اللبنانية، التي تفتقر الى وسيلة النضوج واحترام الرأي الآخر. كل فريق يريد من كل اللبنانيين التقيد برأيه، مع العلم ان تركيبة الوضع اللبناني الاجتماعية والثقافية والسياسية، لا تقوم الا بالتوافق على الاختلاف. ولهذا السبب وبسببهم (السياسيين) تحول لبنان الى «كرة قدم» تتقاذفها قوى اقليمية إلى.. المجهول.

ويقول الدكتور جرجس: «ان اللبنانيين وحدهم باستطاعتهم انقاذ لبنان. ان الارادة السياسية هي العامل الرئيسي. نحن اللبنانيين، اعتدنا أن نرمي مشاكلنا على الآخرين ونقول اننا ضعفاء، في حين ان القوى اللبنانية السياسية الرئيسية هي المسؤولة الوحيدة عن استمرار الأزمة، وهي المسؤولة عن تعميق وتجذير هذه الأزمة، طبعاً بعض الاطراف مسؤولة اكثر من غيرها، لكن في الحقيقة ان القوى السياسية اللبنانية تتحمل المسؤولية الأدبية والاخلاقية والفكرية في دفع لبنان الى الهاوية، والتاريخ لن يرحم هذه القوى السياسية التي لا تملك الجرأة الأدبية أو الإرادة السياسية من أجل تقديم التضحيات في سبيل لبنان.

ويضيف: «المفروض بكل القوى السياسية ان تعطي وتأخذ وتتعامل مع الوضع اللبناني على انه وضع خطير، فكل ما يحتاجه اشعال حريق يقضي على الأخضر واليابس مجرد شرارة صغيرة».

إذا اشتعل الحريق سيخسر اللبنانيون والتركيبة اللبنانية والمجتمع اللبناني، كما حدث في الحرب الأخيرة التي انتهت بسيطرة اقليمية على لبنان من قبل سوريا. ويجب ان تدرك القوى السياسية الحالية خطورة الوضع، هي تدفع الازمة الى آخر المطاف، لكن اذا اندلعت حرب جديدة فسوف تكون اكثر تدميراً من الاولى، لأنها لن تكون بين طرفين فقط، فكل الأوراق الأقليمية والخارجية ستختلط، وسيكون تدخل هذه الاطراف اكبر بكثير من الحرب الأخيرة، وسيشهد لبنان ازمة اخطر من الحرب العراقية، فلبنان لا يحتمل حرباً بنفس خطورة تلك الدائرة في العراق.

ان الاطراف اللبنانية والاطراف الاقليمية وبعض الدولية تراهن كلها على تغيير في ادارة الاميركية، لكن، اذا اقرّت الادارة المقبلة بنفوذ ايران في العراق، فهل ستكتفي ايران بذلك ام ستطلب لاحقاً نفوذاً في لبنان، وماذا سيكون رد فعل سوريا في هذه الحالة؟ يقول الدكتور جرجس: «لا اعتقد بأن الادارة الاميركية الحالية أو المقبلة مستعدة للمساومة على مستقبل لبنان. إن المرشحَين الديمقراطيين كما المرشح الجمهوري يعطون حيزاً كبيراً لمسألة نشر الديمقراطية واحترام حقوق الانسان في العالم وهناك اهتمام بالوضع اللبناني، لذلك فإن المعادلة الجديدة لن تأتي على حساب لبنان، لكن حلحلة الازمة الاقليمية قد تؤدي الى حلحلة الأزمة اللبنانية وايجاد معادلة تسمح باستقلالية اكثر للبنان وايجاد اتفاق اجتماعي. ويضيف: «انا متفائل بأن الادارة الأميركية الجديدة ستلعب دوراً ايجابياً في حلحلة وليس في تعميق الازمة اللبنانية».

الملاحظ ان الازمة استعرت بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، مما يؤكد ان اغتياله كان احد الصواعق في تفجير الازمة اللبنانية والحرب الباردة الثانية، ومن هنا اهمية المحكمة الدولية، ومن خلال مراقبته ومحادثاته مع الطاقم السياسي في الولايات المتحدة يؤكد جرجس بأن المحكمة الدولية جدية وستُعقد قريباً جداً، «وعندما نتكلم عن معادلة جديدة بين واشنطن وطهران، لا نتكلم عن مساومة على مستقبل لبنان».

في النهاية، يراهن الدكتور جرجس على الضوابط التي «تجمّد» الصراع الداخلي اللبناني. وهو يعتقد بأن السيد حسن نصر الله الامين العام لـ«حزب الله» من اهم الضوابط في منع حصول انفجار داخلي في لبنان، واذا «جرت اي محاولة لاغتيال نصر الله قد تكون هي الصاعق»، هو يراهن على بقية ضمير لدى القوى السياسية الرئيسية في لبنان، وبأنهم لن يغامروا «بغض النظر عن رأينا الشخصي فيهم».

اسأله: اذن سنلتقي في لبنان قريباً؟ يجيب: نعم، انها مسألة اشهر وليس مسألة سنة أو سنتين!