تناقضات وغرائب الذكرى الخامسة لاحتلال العراق

TT

في الذكرى الخامسة للاحتلال الأميركي للعراق تبدو صورة الوضع مرعبة للغاية. فشل أميركي واضح في السيطرة. دمار شامل يلف العراق من أقصاه إلى أدناه. فشل فاضح لحلفاء الاحتلال في السيطرة على الوضع رغم الدستور والانتخابات وأحلام الديمقراطية الأميركية.

وينشأ في ظل هذه الفوضى الشاملة وضع سياسي من نوع غريب، فالقوة العسكرية الأساسية في العراق هي الجيش الأميركي، والنفوذ السياسي الفعلي داخل العراق هو لإيران التي تعتبرها واشنطن خصمها الأساسي في المنطقة. والمستفيد الأساسي من ضرب العراق وتدميره، حسب كثير من المعلقين العرب والأجانب، هو إسرائيل التي تعتبر أن احتلال العراق أزال قوة عربية أساسية كانت في مواجهتها. وتتصادم هذه الوقائع الثلاث على الأرض، وتعمل كل واحدة منها ضد الأخرى، بحيث يستحيل إيجاد فهم موحد لما يجري.

فإيران تخوض مواجهة استراتيجية مع أميركا حول سعيها لامتلاك الخبرة النووية، وهي تقدم لأميركا في الوقت نفسه القوى الأساسية المتحالفة معها من أجل حكم العراق. وإيران تدعو أميركا لإنهاء احتلالها للعراق، ولكنها تضغط في الوقت نفسه على القوة الشيعية المناوئة للاحتلال (التيار الصدري) من أجل أن يوقف مواجهته مع حكومة المالكي الشيعية المؤيدة للاحتلال. ويفسر البعض ذلك بأنه مسعى لمساومة إيرانية مع أميركا، تضع تهدئة الوضع في العراق في كفة، وتضع المسعى الإيراني لامتلاك الخبرة النووية في كفة أخرى. وإذا افترضنا أن هذه المساومة قائمة فعلا فإن ما قد ينتج عنها هو واحد من أمرين: أن تنجح المساومة فتسهل أميركا لإيران مسألة الخبرة النووية، مقابل أن تسهل ايران لأميركا مواصلة احتلال العراق. أو أن تفشل المساومة فيبقى النفوذ الايراني مسيطرا على الوضع السياسي في العراق، مع ما يجره ذلك من تجذير للانقسام الطائفي. خاصة أن ايران تدعم، في آن واحد، الطرف الشيعي المؤيد للاحتلال (المالكي) والطرف الشيعي المعارض للاحتلال (التيار الصدري)، وتستعملهما أحيانا ضد بعضهما بعضا (معركة البصرة)، وتجبرهما أحيانا على وقف الاقتتال والتزام الهدوء (نتائج معركة البصرة). ونحن لا نقول كل هذا من أجل توضيح السياسة الإيرانية في العراق، بل من أجل توضيح غرابة وتناقضات هذه السياسة. وهي سياسة لها تفاعلاتها على الجانب العربي، إذ تثير مخاوف عربية كثيرة، أولها على العراق نفسه، الذي يتم جره قسرا إلى اقتتال طائفي شيعي ـ سني، ثم إلى اقتتال طائفي شيعي ـ شيعي، ومن دون أي اهتمام بقضية المواطنية العراقية القادرة وحدها على تجنب الحروب الطائفية، والتوجه نحو بناء عراق موحد شعبيا وسياسيا وجغرافيا.

هذه السياسة الايرانية الغريبة والمتناقضة تلتقي وتتصادم مع سياسة أميركية غريبة ومتناقضة أيضا. وتستند هذه السياسة إلى مستندات خاطئة منها:

* أولا: افتراض وجود فصل ميكانيكي بين ما يجري في العراق وما يجري على صعيد المواجهة العربية ـ الإسرائيلية.

* ثانيا: تجاهل أن ما يجري في العراق على الأرض يقلق دول الجوار في السعودية والخليج العربي، وبخاصة في ما يتعلق بخطر امتداد النار الطائفية من العراق إلى جواره.

* ثالثا: لا تستطيع الدول العربية، حتى المتحالفة منها مع أميركا، أن تفهم هذا النوع من السياسة الأميركية، الذي يطالبها بدعم موقفها في العراق، بينما هي ترعى وقائع على الأرض تهدد مصالحها.

* رابعا: تفرز هذه السياسة الأميركية الغريبة والعجيبة تحليلات خطرة، سواء كانت صائبة أو لا، تشير إلى أن الولايات المتحدة تتعمد تنمية الوضع الطائفي القائم في العراق، بناء على تصور يقول بضرورة إيجاد دولة عربية شيعية، توازن الوضع مع القوى العربية السنية، وبخاصة مع السعودية. وإذا صحت مثل هذه التحليلات فإن من شأن المخاوف العربية أن تقوى وتشتد، وأن تخرج مع الوقت من إطار السيطرة، وتصبح لعبة خطرة على مصالح أميركا نفسها.

وما يستحق التوقف عنده في هذه المسألة، أن الإدارة الأميركية تتجاهل هذه المخاوف العربية، بل وتكاد لا تلقي إليها بالا. وها هي مثلا ستدعو قريبا إلى لقاء خماسي يضمها مع الأردن ومصر وفلسطين وإسرائيل، للبحث في موضوع التسوية السياسية، ومصير المفاوضات الجارية بين السلطة الفلسطينية وحكومة ايهود اولمرت، محاولة إبراز نفسها أنها ساعية للسلام والتهدئة في المنطقة (فلسطين)، بينما هي ساعية للتقسيم والتفرقة والتوتير في مكان آخر استراتيجي (العراق).

تتصرف أميركا في الموضوع الفلسطيني، ومع العرب جميعا، على أنها طرف محايد يبحث عن كيفية إيجاد صيغة تفاهم بين الطرفين، بينما يدرك الفلسطينيون، والعرب جميعا، أن إسرائيل لا تفعل شيئا إلا بتشجيع أميركي. وهي حين تواصل تجميد ورفض التفاوض الفعلي مع الرئيس محمود عباس، إنما تفعل ذلك برضى أميركي، وبتشجيع أميركي لإسرائيل بأن لا تتنازل أمام الفلسطينيين والعرب. ويحدث هذا بينما يدرك الفلسطينيون، والعرب جميعا، أن الإدارة الأميركية قادرة، حين تريد، أن توجه لإسرائيل أوامر بكل معنى الكلمة. ففي حرب لبنان 2006 أرادت إسرائيل أن توقف الحرب في أيامها الأولى، وأمرتها الإدارة الأميركية بأن تواصل تلك الحرب لتحسين القرار السياسي الذي سيصدر عن مجلس الأمن، ورضخت إسرائيل رغم الخسائر التي تكبدتها أثناء ذلك. وحين قامت الضجة في إسرائيل داعية إلى استقالة رئيس الوزراء اولمرت أمرت الإدارة الأميركية ببقاء اولمرت في منصبه، وتم لها ذلك بالرغم من التدهور الفادح والمتواصل في شعبيته. وحين يكون التأثير الأميركي على القرار الإسرائيلي قويا إلى هذه الدرجة، فلماذا لا يتم سحبه على موضوع التفاوض الفلسطيني ـ الإسرائيلي؟ الجواب معروف ومعلن، وهو أن واشنطن تشجع إسرائيل على التمسك بكل ما تراه مناسبا لمصالحها، مع السعي لفرض ذلك على الفلسطينيين. وهي تواصل مخاطبة العرب على أنهم جهلة لا يدركون طبيعة هذا الموقف الأميركي.

وتكاد هذه السياسة الأميركية، من العراق إلى فلسطين، أن تصبح سياسة غير مفهومة إطلاقا من قبل العرب جميعا، حتى لو جرى تقسيمهم لفظيا إلى معتدلين ومتطرفين. وبسبب عدم القدرة العربية هذه على فهم السياسة الأميركية، فإن الأمر أصبح يستدعي مقاربة عربية جديدة في التحاور مع الإدارة الأميركية. لا بد من وقفة تقال فيها الأمور بصراحة: سياستكم غريبة وعجيبة ومتناقضة وتضر بمصالحنا، ونحن نطالبكم بسياسة جديدة تضمن مصالحنا، سياسة تضمن مواطنية العراق ووحدته، والتجاوب مع مطالب الحد الأدنى الفلسطينية، والتي تضمن قيام دولة مستقلة ذات سيادة عاصمتها القدس وعلى كل الأراضي التي تم احتلالها عام 1967. ومن دون سياسة عربية من هذا النوع فإن لعبة إضاعة الوقت التي تمارسها الإدارة الأميركية، ستتواصل، وستتواصل معها الأخطار الناجمة عن هذه السياسة.

ويجري البحث همسا الآن، عن التوجه لتنظيم لقاءات تشاور عربية، تواصل ما تم إنجازه في القمة العربية في دمشق. وهناك من يحتج سلفا على هذه اللقاءات، ولكننا نرى أن أي تشاور عربي هو بالضرورة أمر إيجابي، وسيكون إيجابيا أكثر حين تكون سوريا جزءا أساسيا من هذه المشاورات، أولا بسبب كونها الرئيسة الحالية للقمة العربية، وثانيا لأنها طرف معني بالقضايا التي تبحث، سواء في ما يتعلق بلبنان، أو في ما يتعلق بالعراق المجاور لها، والذي تستقبل هجرته التي تجاوزت الآن المليون نسمة، أو ما يتعلق بإسرائيل ونواياها العدوانية التي تحظى سوريا بنصيب وافر منها. وفي تشاور شمولي من هذا النوع ستتلاشى نظرية المعتدلين والمتطرفين العرب، وتنفتح إمكانية بناء موقف عربي موحّد يكون خير رد على الذكرى الخامسة للاحتلال الأميركي للعراق.