ما أن تنتهي في البصرة حتى تبدأ في الموصل!

TT

في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، ذكر مصدر عسكري أميركي في العراق أن قوات التحالف ستحوّل انتباهها الى البصرة بمجرد أن تنتهي من العملية العسكرية في الموصل ضد «القاعدة» والمقاتلين السنّة. وأنها تنوي نشر الآلاف من قوات المارينز في البصرة وضواحيها. قبل ذلك، في منتصف الشهر، وأثناء زيارة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني لبغداد، طلب من رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي السير بخطة الجنرال ديفيد بترايوس الهادفة الى القضاء على مواقع مقتدى الصدر في البصرة. بعد ذلك ناقش تشيني مع عبد العزيز الحكيم العدو اللدود للصدر، زعيم المجلس الإسلامي العراقي الأعلى خطة التخلص من جيش المهدي، ووصف تشيني الحكيم بـ«صديقي»، الذي «يعمل حثيثاً مع الولايات المتحدة الأميركية وبقية القادة العراقيين من اجل الحرية والديموقراطية في العراق».

كانت الخطة معدة للتنفيذ في الصيف المقبل، لكن، لأسباب غير معروفة قرر المالكي «الانقضاض» وحده على الصدر و«جيش المهدي» ليستعين لاحقاً بالسلاح الجوي الأميركي والمدفعية البريطانية، ومن ثم ليذهب ممثل عنه، من «حزب الدعوة» وآخر عن المجلس الإسلامي الأعلى إلى قم، ويطلبا وساطة الجنرال قاسم سليماني قائد «قوات القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني الذي توصل بينهما وبين الصدر لاتفاق على وقف إطلاق النار. وسليماني هو المسؤول عن عمليات «الحرس الثوري» في الخارج، والعسكريون الأميركيون في العراق يحمّلون «قوات القدس» الايرانية مسؤولية التفجيرات وعمليات العنف، ثم ان الإدارة الاميركية وضعت «الحرس الثوري» الإيراني على قائمة المنظمات الإرهابية في العالم.

شعرت ايران بأن في استطاعتها تسويق معادلة انه «لا بد منها» لتأمين الاستقرار في العراق، ثم ان تفشيلها للسيطرة الاميركية ـ البريطانية على البصرة يُبقي المجال مفتوحاً امامها للتحكم بالثروة النفطية في الجنوب، فالسيطرة على البصرة شرط مسبق قبل ان تبدأ شركات النفط الأميركية الضخمة باستثمار المليارات من الدولارات هناك.

لذلك ما كان يمكن للولايات المتحدة ان تسمح مرة أخرى لإيران بأن تسجل انتصاراً عليها، خصوصاً ان الانتصار في البصرة مضاعف: السيطرة على الجنوب العراقي، وعلى كل ما فيه من ثروة نفطية. ايضاً، لم يكن باستطاعة ادارة الرئيس جورج دبليو بوش القبول بالهزيمة، في ظل ما يتردد من ان الادارة الاميركية المقبلة ستفتح قنوات اتصال دبلوماسية مع طهران، الأمر الذي جعل طهران تستعجل في تحريك «الحبال» العراقية التي بين يديها، الأمر الذي يعلّي سقف الشروط لاحقاً، خصوصاً انه بلغها، من دون شك، ان خمسة وزراء خارجية اميركيين سابقين وهم هنري كيسنجر، وجيمس بيكر، ووارن كريستوفر، ومادلين اولبرايت وكولن باول، التقوا حول طاولة مستديرة اخيراً في اثينا، وتناقشوا وتوصلوا الى توافق لحث الإدارة الأميركية المقبلة على فتح حوار مع ايران.

حتى الآن لم تُحسم معركة البصرة بعد، او معركة مدينة الصدر في بغداد، وفي حين ان الانظار مركّزة على الجنوب، فإن شمال العراق يُنذر بحرب أهلية أخرى. فالأكراد يعملون على ضم فعلي لمحافظة التأميم التي كركوك عاصمتها، والتي تقبع على احتياطي نفطي يصل حتى 15 مليار برميل، وكون الاستفتاء الذي كان مزمعا إجراؤه في كانون الاول (ديسمبر) 2007 قد تأجل لمعرفة حكومة المالكي بأن النتيجة لن تكون في صالحها، يعمل الأكراد الآن «نظرياً» على قلب معادلة التعريب التي أقدم عليها الرئيس السابق صدام حسين، وفي الواقع، ينوي الاكراد، اذا تم الغاء اجراء الاستفتاء، ضم كركوك فعلياً بأن يُدعى البرلمان الكردي الى التصويت على الأمر.

كانت احزاب سنّية وشيعية، بمن فيها مقتدى الصدر ورئيس الوزراء السابق إياد علاوي، اعتبرت طلبات الأكراد كبيرة جداً وغير منطقية. ورغم معارضة السنّة العرب تقديم كركوك الى الاكراد مع معرفتهم بأن هؤلاء اقسموا على الموت في سبيل اخذها، تستمر عملية «تكريد» المدينة بمعنى سيطرة الأكراد على مجالس البلدية والوظائف والشرطة، وهذا ما أدى الى قيام «مجالس الصحوة» السنّية في المدينة بتمويل وتسليح من الأميركيين، كما في بقية المناطق السنّية العراقية.

في سبيل كركوك قد تقع حرب اهلية، اذ ان الاكراد لن يتخلوا عنها، الا «إذا رفض ابناء كركوك الانضمام الى دولة كردستان»، كما قال أحدهم.

لقد أثار الاكراد حنق تركيا التي تطالب بكركوك وهم الآن يثيرون غضب سوريا التي تقول ان الموصل اقتطعت منها، لكنهم في الاساس يثيرون ريبة بقية العراقيين، فالموصل ثاني اكبر مدينة في العراق عاصمة محافظة نينوى، وواشنطن تعتبر الموصل على خط المواجهة الاول في الحرب على الارهاب، وبالذات على تنظيم «القاعدة في بلاد ما بين النهرين». الشهر الماضي اختطف وقُتل اسقف الموصل بولص فرج رحو، وتتواصل «صناعة» الخطف والقتل، خصوصاً ضد مسيحيي المدينة، كما ان البطالة تتجاوز السبعين في المائة في الموصل (النسبة نفسها في بغداد)، وتقوم المؤسسة العسكرية الأميركية ببناء جدار من الطين والتراب حول المدينة لمنع تهريب الأسلحة، كما تنتشر نقاط تفتيش اميركية وعراقية، لكن كل افراد الجيش العراقي على هذه النقاط، من البيشمركة.

وفي ظل هذا المناخ من الرعب القاتل، فان الأكراد (من جنود وشرطة) بدل مواجهة الجهاديين العرب و«القاعدة»، يقومون بعملية تطهير عرقي للسنّة العراقيين في المدينة، وهذا ما يفسره الأميركيون بأنه انتصار في حربهم على الإرهاب.

إن الأغلبية الكردية تريد الاستقلال، وهذا حق لا نقاش فيه، لكن جعل كركوك والموصل جزءاً من الكيان الكردي يمتد أيضا الى المفاوضات والاتفاقيات التي تجريها الحكومة الكردية الحالية مع شركات النفط العالمية، متجاوزة الحكومة المركزية في بغداد. فقد وقّعت حكومة كردستان اتفاقيات مع ما لا يقل عن ثلاثين شركة نفط عالمية، وتعمل الآن على وضع الدستور الكردي الذي يتناقض مع الدستور العراقي الذي ضغطت واشنطن كثيراً للمصادقة عليه عام 2005. لكن اذا كان من حق الأكراد البحث في مصير كركوك، فإن الموصل ليست جزءاً من كردستان. هذا اذا لم يكن الاستهداف من هذه الخطة، ضم الموصل من اجل التوصل بعد ذلك الى التفاوض حول كركوك!

ان معركة كركوك والموصل المقبلة من دون شك، ستقرر كيف سيتقسم العراق ما بين الاكراد والسنّة والشيعة. ولمن سيكون النفط. وقد عرف الزعماء الأكراد دائماً كيف يعقدون الصفقات مع من يوفر لهم افضل العروض، وحلمهم الوحيد الوصول الى الاستقلال.

وأخيرا وفي ظل حملة المالكي على الميليشيات، وبالتحديد «جيش المهدي»، تم استثناء ميليشيا «حزب الدعوة» وميليشيا «فيلق بدر». ونجح رئيس وزراء إقليم كردستان، نيجيرفان بارزاني، في التوصل الى اتفاق مع المالكي للإبقاء على قوات البيشمركة، لأنها «قوات منظمة» وتشارك ثلاث فرق منها بالفعل في عمليات الجيش العراقي في عدد من المحافظات، ولم ينجح الأكراد في حماية البيشمركة فقط، خصوصاً أنهم ما كان يمكن على الإطلاق أن يسمحوا للمالكي بتفكيكها، بل هم نجحوا أيضاً في الحصول على قبول المالكي بكل الاتفاقيات النفطية التي وقعتها حكومة كردستان مع الشركات العالمية.

في الجنوب هناك عامل النفط، وفي الشمال ايضاً، في الجنوب حرب أهلية تستعر، وفي الشمال حرب أهلية على الأبواب وقد تكون الموصل مسرحها.